كتاب السنة ومكانتها من التشريع لعبد الحليم محمود

بل التزموا الصدق والصراحة في تعريفهم، وجمعوا كل ما يتصل بأخلاقهم وعاداتهم، وما يدل على قوتهم وضعفهم واحتياطهم وتساهلهم، وتقواهم وعلمهم وذاكرتهم، وجمعوا كل ما قاله معاصروهم فيهم، ولم يداروا ولم يجاملوا في ذلك، ولم يهابوا أحدًا، ولو كان بعضهم أميرًا مهابًا أو شيخًا وقورًا.

وقد روى التاريخ في ذلك طرائف تدل على شدة هؤلاء الناقدين وعلمهم بقوله تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} (¬1) وتدقيقهم.
قال أبو داود: «كَانَ أَبُو وَكِيعٍ عَلَى بَيْتِ المَالِ، فَكَانَ وَكِيعٌ (م 197) إِذَا رَوَى عَنْهُ قَرَنَهُ بِآخَرَ» (*).

وقد ترك معاذ بن معاذ العنبري (م 196 هـ) رواية [المسعودي]، لأنه رآه يطالع الكتاب، يعني قد تغير حفظه. (**). وقد قدم إليه عشرة آلاف دينار، وطلب منه أن يسكت عن فلان فلا يتكلم فيه بجرح ولا تعديل، فأبى ورفض هذا الحال العظيم، وقال: «لاَ أَكْتُمُ الحَقَّ».

وهذا قليل من كثير جِدًّا يدل على أمانة علماء الحديث والرجال، وتدقيقهم في موضوعهم، وتحريهم الحق والعدل في شهاداتهم، فهل يوجد في تاريخ العلم نظير لهذه الأمانة والتدقيق؟
¬__________
(¬1) [سورة النساء، الآية: 135].
-----------------------
[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]:
(*) «وَكَانَ وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ لِكَوْنِ وَالِدِهِ كَانَ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ، يُقْرِنُ مَعَهُ آخَرَ إِذَا رَوَى عَنْهُ»، انظر " فتح المغيث بشرح ألفية الحديث للعراقي " للسخاوي، تحقيق علي حسين علي: 4/ 356، الطبعة الأولى: 1424 هـ - 2003 م، نشر مكتبة السنة - مصر.
(**) انظر: " الاغتباط بمن رمي من الرواة بالاختلاط "، سبط ابن العجمي (المتوفى: 841هـ)، تحقيق علاء الدين علي رضا، (" نهاية الاغتباط بمن رمي من الرواة بالاختلاط ") [دراسة وتحقيق وزيادات في التراجم على الكتاب]، 1/ 205، الطبعة الأولى: 1988 م، نشر دار الحديث القاهرة.
" التقييد والإيضاح شرح مقدمة ابن الصلاح " زين الدين العراقي، تحقيق عبد الرحمن محمد الخشت، 1/ 454، الطبعة الأولى: 1389 هـ- 1969 م، الناشر: محمد عبد المحسن الكتبي صاحب المكتبة السلفية بالمدينة المنورة.
" الشذا الفياح من علوم ابن الصلاح " إبراهيم بن موسى الأبناسي (المتوفى: 802هـ)، تحقيق صلاح فتحي هلل، 2/ 759، الطبعة الأولى: 1418 هـ - 1998 م، نشر مكتبة الرشد. المملكة العربية السعودية.

الصفحة 69