كتاب قضايا الشعر المعاصر

التهرب من طابعه العام. ومثل هذا الفرد لا بد أن يمثل المجتمع سواء أأراد أم لم يرد. وعلى هذا تصبح الاجتماعية سمة طبيعية لا تشبه الثوب الذي يستطيع المرء أن يخلعه متى شاء. إنها شيء ينطبع في الدم والفكر والأعصاب. وهذا شيء يلوح أن الدعوة تغفل عنه عندما تتحدث في احتقار عن أولئك "الانعزاليين الذاتيين الذين لا يمثلون مجتمعهم".
ألا يدل هذا على أن الدعوة لا تستند إلى الواقع وإنما تشيد لنفسها دعائهم من هواء في فراغ خيالي؟ ذلك أنها تغرم بالمجتمع فتحمل مصباحًا لتبحث عنه في ضوء النهار. وبدلًا من أن تتذكر أنه كيان معنوي لا وجود له إلا على صورة أفراد من الناس، نجدها تجلس على كرسي مريح وتتخيل له صورًا مثالية منمقة، ثم تطلب إلى الأفراد أن "ينضغطوا" في إطارات هذه الصور. وهذا منطق معكوس. فما هذا المجتمع؟ إنه نحن ... أنا وأنت أيها القارئ وجيراننا وأصدقاؤنا وبنو عمنا. وكلنا نمثله: الشاذ منا والذكي والغبي والموهوب. ولكن دعاة الاجتماعية لا يصدقون هذا فهم لا يدرسون بيئتنا مستدلين عليها بإنتاج شعرائها وأدبائها وإنما يريدون أن يملوا على الشعراء والأدباء أدبًا يمثل البيئة، وهذا ألطف المتناقضات.
هذا الموقف الذي تقفه الدعوة يؤدي بنا إلى خسارة اجتماعية وأدبية كبيرة، فأنصار الدعوة ينشغلون بابتداع الصور الخيالية لما يجب أن يكون عليه الكائن الاجتماعي النموذجي، تاركين الواقع يرقد خلال ذلك منسيًّا.
وهكذا نجدهم يملئون الصحف خطبًا دون أن يحاولوا استخلاص المعنى الاجتماعي الذي يدل عليه اتجاه هؤلاء الشعراء. وهل من المعقول أن يتجه جيل كامل من الشعراء إلى اتجاه بعينه دون أن تكون هنالك أسباب بيئية وتاريخية موجبة؟ إن الأدب ليس تفاحة مسحورة تنبت في الهواء وإنما هو ثمرة على شجرة تتصل بتربة ويحيط بها مناخ، وهذا هو المعنى الذي ينساه دعاة الواقعية المزعومة "Pseudo-raslism".

الصفحة 299