كتاب قضايا الشعر المعاصر

ولندرس الدعوة من وجهتها الوطنية. فماذا سنجد؟ هنا أيضًا ستجبهنا أسس منهارة لا تستطيع أن تثبت للفحص طويلًا. والحق أن العنصر الوطني قائم، ولو فكرنا، على فهم للوطنية يضيق معناها تضييقًا شديدًا.
فالدعوة عندما تؤكد أن انصراف الشاعر المعاصر إلى تصوير عواطفه الخاصة يدل على نقص في حسه الوطني -والدعوة تستعمل ألفاظًا أعنف غالبًا- إنما تفترض ضمنًا ثلاثة مضمونات غريبة تستوقف النظر. وسنحاول أن نناقشها هنا.
أول هذه المضمونات أن الدعوة تفصل فصلًا قاطعًا بين دائرة "المواطن" الصالح ودائرة "الإنسان". فلكي يكون المرء مواطنًا صالحًا في نظرها ينبغي له أولًا أن يتخلص من إنسانيته، فلا يحب قوس قزح، ولا ينفعل لمنظر الحصاد، ولا تطربه أغاني الحمامة بين النخيل في ظهيرة بغدادية، ولا تمتعه مسرات الصداقة الساذجة، وذكريات نزهة عائلية مرحة على رمال جزيرة. فكل هذا إذا تغنى به الشاعر، إنما يثبت "سلبيته" في نظر الدعوة.
وما يمكن أن يقال في نقد هذا الرأي أن نسأل أنصار الدعوة أنفسهم إن كانوا في حياتهم اليومية لا يصرفون أكثر وقتهم في العواطف العائلية والحديث عن قضايا حياتهم الواقعية والتنكيت والجدل والغناء والغضب والمزاح والانفعال؟ وما دمنا لا نستطيع أن نحكم على إنسان يفعل هذا بنقص الحس الوطني، فلماذا نعامل الشاعر معاملة أخرى، وما دامت الحياة الإنسانية لا تناقض الحياة الوطنية، فإن من غير المعقول أن نحكم على شاعر بنقص الحس الوطني لمجرد انصرافه إلى تصوير الجانب الإنساني من حياته التي يشاركه فيها الناس جميعًا.
وأما ثاني المضمونات الغريبة التي تختفي خلف هذا الحكم الذي تسوقه الدعوة، فهو ينتهي بنا إلى الحكم بأن "الوطنية" معنى مرادف للكفاح السياسي، وهذا مخالف للمعنى الحقيقي للوطنية، معنى حب الوطن العربي

الصفحة 300