كتاب قضايا الشعر المعاصر

وحسب. أما الكفاح السياسي فهو وظيفة النخبة المثقفة من القادة والزعماء والاختصاصيين في كل أمة. ويبدو أن الدعوة تتغافل عن حقيقة أخرى مهمة هي أن الوظيفة العظمى للملايين من المواطنين في كل بلد هي إعالة أسرهم وتحسين أحوالهم الاجتماعية وتهذيب أبنائهم وانصرافهم انصرافًا مخلصًا إلى أعمالهم التي تؤهلهم لها إمكانياتهم العقلية والجسمية، فليس عملهم هذا بأقل قداسة ومكانة من عمل السياسي المناضل والزعيم الموجه. وقد تكون الدعوة إلى أن يترك الفرد العربي حياته الإنسانية ويشتغل بالكفاح السياسي دعوة خطرة تسيء إلى أمتنا الفتية التي تحتاج احتياجًا شديدًا إلى أبناء مثقفين مدربين ينصرفون إلى أعمالهم التي يحسنونها: الفلاح إلى حقله، والعامل إلى آلته، والمعلم إلى تلاميذه، والميكانيكي إلى أجهزته، والنحات إلى تماثيله، والشاعر إلى قصائده. أما الكفاح السياسي فهو عمل أناس مختصين لهم من ثقافتهم ودراستهم وظروفهم ما يهيِّئُهم لهذا العمل المعقد.
أما ثالث المضمونات، فهو الحكم بأن الشعر لا يملك قيمة ذاتية في المجتمع، وإنما هو واسطة لغايات أخرى. وهذا حكم يتجاهل القيم الحيوية التي يملكها الفن في حياتنا الإنسانية بمعزل عن موضوعه. وأول هذه القيم أن الفن شحذ لملكات معينة في الإنسان لا يعقل أن الطبيعة كانت عابثة عندما أوجدتها. وثانيها ما يراه الفيلسوف الفرنسي "جان ماري غويو" J.M. Guyau من أن في الفنون كلها وسيلة لإنفاق الفائض من الطاقة الإنسانية الذي لا بد له أن ينفق، فإذا قضى المجتمع على الفن أدى ذلك إلى أن تختزن طاقة متفجرة في الذهن الإنساني دون أن تجد منفذًا، وهذا لا بد أن يؤدى إلى نوع من فقدان التوازن بين الحياتين الحركية والنفسية، وهو أمر مضر بالحياة الإنسانية.
وحتى إذا أردنا أن نعتبر الفن لعبًا مجردًا كما يرى "كانت" و"سبنسر" فسرعان ما ينصرنا المذهب التجريبي الذي يقول بأن اللعب ضرورة بايولوجية، فما يلوح لهوًا خالصًا إنما هو في الحقيقة حاجة إنسانية متأصلة

الصفحة 301