كتاب قضايا الشعر المعاصر

إن مظاهر عشق الشابي للموت تنتشر عبر شعره، هناك مثلًا هذه اللوحة الباذخة التي يرسمها لموته في قصيدة "النبي المجهول":
ثم، تحت الصنوبر الناضر الحلو،
تخط السيول حفرة رمسي
وتظل الطيور تلغو على قبري
ويشدو النسيم فوقي بهمس
وتظل الفصول تمشي حوالي
كما كن في غضارة أمسِ1
في هذا الأبيات تخلو تجربة الموت من المرارة الرهيبة، فالشابي يذكرها في هدوء حالم، وكأنها ستقوده إلى عوالم خفية مسحورة يشتاق إلى أن يجوبها. وهذا عين ما نستطيع استخلاصه من القصيدة المشهورة "الصباح الجديد"2 فالأبيات الأخيرة فيها تذكرنا بحرارة الفرحة التي تنبثق في قلب غلام حالم يعبد البحر، وقد أتيح له أخيرًا أن يبحر في سفينة شراعية بيضاء ذات صباح دافئ ربيعي الشمس.
هذا الموقف الذي يقفه شاعرنا من الموت يعيد إلى الذاكرة موقف الشاعر الإنكليزي المبدع جون كيتس "John Keats" الذي يمكن أن نسميه شاعر الموت المفتون الأكبر، فهو يقول في إحدى قصائده: "الشعر والمجد والجمال أشياء عميقة حقًّا. ولكن الموت أعمق. الموت مكافأة الحياة الكبرى"3. ويهتف في قصيدة مشهورة "كنت نصف عاشق للموت المريح، وناديته بأسماء عذبة في أناشيد عديدة". ثم يضيف بيتين: "الآن يبدو لي أكثر من أي وقت آخر أن من الخصوبة أن
__________
1 و2 المصدر السابق.
3 قصيدة كيتس Why Did I Laugh To-night?.

الصفحة 306