كتاب قضايا الشعر المعاصر

منه مختلفًا عن الموقف المألوف بين الناس. فهؤلاء يجعلونه خاتمة بينما يراه بروك في أكثر الأحيان بداية فنية لإمكانيات متعددة. وهذا يعيد إلى ذاكرتنا قصيدة كيتس "هايبريون hyperion" وفيها نجد "أبولو" الإله الجديد لا يبلغ مرتبة الإلوهية إلا بعد أن يموت "die into life" وبهذا يكون الموت خطوة نحو الحياة الكبرى.
بعد هذا الاستعراض السريع لمظاهر الولع بالموت في شعر الهمشري والشابي وكيتس وبروك.. سنحاول أن نتساءل عن العلاقة الممكنة بين هذا الولع الغريب بالموت، والوفاة المبكرة التي أردت الشعراء المذكورين وهم في غضارة الشباب قبل الثلاثين. ولعل بعض السر يكمن -في حالة كيتس والشابي- في مرض السل الذي ماتا به في سن السادسة والعشرين، فالمعروف أن هذا داء عاطفي تصحبه أعراض من الحساسية والعذوبة وحدة الانفعال1 غير أن الهمشري وبروك قد ماتا فجأة لأسباب عارضة، فتوفي الأول في عملية جراحية بسيطة أحسبها الزائدة الدودية، ومات الثاني قتيلًا خلال الحرب، وهذا يبعد أن يكون المرض هو السبب في حب الموت. فبماذا، إذن، نعلل هذه الظاهرة الغريبة؟ ولم كان هذا الحب الخصب للموت عند شعراء ماتوا في ريعان شبابهم؟ أكان الغرام يتصل بالوفاة المبكرة عن طريق الإيحاء على وجه ما؟ أم كان نتبجة لإدراك غامض للموت المبكر الذي ينتظر في زاوية من زوايا المستقبل القريب؟
__________
1 حين كتبت هذا الفصل سنة 1954 كان الشائع في الوسط الأدبي أن الشابي قد مات بمرض السل الرئوي. والظاهر الآن، من الدراسات الأحداث في تونس، بلد الشاعر، أن مرضه كان ضعف القلب، وأنه لازمه منذ يفاعة سنة. وقد آثرت أن أترك هذا البحث كما نشر دون تعديل مع الاحتراز بهذه الحاشية.

الصفحة 310