كتاب قضايا الشعر المعاصر

لكي نصل إلى أجوبة هذه الأسئلة نلاحظ أن بين الشعراء الأربعة صفة مشتركة يملكونها جميعًا على شيء من التفاوت، هي حدة الإحساس أو القدرة على الانفعال العنيف. وهذه صفة لا يملكها المتوسطون من الناس، ولعل هذا من حسن حظ الإنسانية. ذلك أن الانفعال إسراف في الطاقة لا ترضاه الطبيعة. والحق أن الطبيعة تمقت الإسراف في الجهات كلها وتعمل جاهدة على رد الحياة البشرية إلى الاعتدال الذي يضمن لها البقاء.
ومن السهل أن نمثل لهذا الإسراف في الانفعال بالإشارة إلى قصيدة "العاشق الأكبر" "the great lover" لبروك. وقد عد فيها الأشياء التي أحبها حبًّا شديدًا، على كثرتها. وسنعجب حين نجدها تشمل الصحون البيضاء والأكواب، والغبار، والسطوح المبللة تحت ضوء الطريق، وأقواس قزح: ودخان الخشب المحترق، وقطرات المطر المختبئة في الأزهار الدافئة، ونعومة الأغطية، وخشونة الشفوف، والغيوم، والجمال اللاعاطفي الذي تملكه آلة ضخمة ورائحة الثياب القديمة، والألم الجسمي وهو يتحول إلى الهدوء، والنوم والأماكن العالية، وأشجار البلوط، وأشياء أخرى كثيرة غير هذه. وهي أشياء منحها الشاعر كثيرًا من الانفعال الذي يخزنه سواه من الناس للأحداث الكبيرة في الحياة. فالإنسان المتوسط يدرك في أعماقه أن هذا التبذير في الإحساس مضر بحياته، ومن ثم يبتعد عنه ويحرص على الاقتصاد في العاطفة.
وفي حالة الهمشري تجبهنا تلك الحدة العاطفية التي نلمسها في الصلاة الملتهبة التي أرسلها إلى حبيبته "جتا" في عالمها اللامنظور1 وتلوح لنا في وضوح ونحن نقرأ قصيدته البديعة في "النارنجة الذابلة"2 وكلا "جتا"
__________
1 الروائع لشعراء الجيل. قصيدة "إلى جتا الفاتنة" ص17.
2 نفس المصدر - ص12.

الصفحة 311