كتاب قضايا الشعر المعاصر

القرون الأولى التي كانت تعزل بطنًا من قبيلة ما فتجعل لغته تشذ وتنحرف. ولقد ثبت القرآن، بلغته السهلة الجميلة، صورة للغة العرب سارت عليها القرون وأغنتنا عن الشذوذ والعبث. ثم إن قواعد النحو ليست إلا صورة من القوانين التي تخضع لها الجماعات، والجماعة التي تضيع قواعد لغتها لا بد أن تضيع قواعد تفكيرها وحياتها بالتالي. إن لزوم القاعدة النحوية صورة من إحساس الأمة بالنظام ودليل على احترامها لتاريخها وثقتها بأنها أمة أصلية. وما القواعد النحوية، بعد، إلا عصارة الألسنة العربية الفصيحة عبر مئات من السنين، فلن يكون في وسع شاعر اليوم أن يلعب بها إطاعة لنزوة لغوية عابرة.
ولنتساءل، على كل حال، عن المكسب التعبيري الذي يحققه الشاعر من إدخاله "أل" على الفعل مثلًا. ولا بد أن يسوقنا هذا إلى أن نتساءل أولًا لماذا كانت الأفعال غير قابلة لدخول "أل" عليها؟ في الواقع أن قواعد النحو تخضع لمنطق العاطفة الإنسانية خضوعًا تامًّا، وما من قاعدة معقولة قط إلا وفي وسعنا أن نلتمس لها سببًا إنسانيًّا يدعمها. وإنما تدخل "أل" على الأسماء لأنها أسماء ولها صفة الاسمية، أو صفة التجريد بكلمة أخرى. فالأسماء كلها مجردة من الزمن ومن الحركة ومن العاطفة. ومثلها في هذه الصفات. إن وجودها جامد لا ينمو ولا يتغير ولا تأثير لمشاعرنا فيه. وليست كذلك الأفعال. هنا، في الأفعال، يمتد مجال الإنسانية وتعيش أحاسيسنا وحركاتنا وتقلباتنا وحياتنا كلها. إن قولنا "جاء" يمتلك من الحياة الزاخرة ما لا يملكه ألف اسم وألف صفة. هذه الحركة التي ينطوي عليها فعل المجيء، وهذه الإنسانية الكاملة التي يتضمنها وهذا الزمن الذي يختبئ في ثنايا الحروف، كل ذلك يميز الفعل ويجعله أوثق ارتباطًا بالحياة نفسها. ولذلك كان الفعل أشرف ما في اللغة، وإليه تستند الجمل والعبارات. الفعل هو حقًّا إنسانية اللغة، إذا صح هذا التعبير. ومن ثم فأية خسارة جسيمة أن تدعو مدرسة كاملة اليوم إلى

الصفحة 329