كتاب قضايا الشعر المعاصر

العرب اليوم حتى أهملوا الأداة التي يعبر بها عن ذلك المضمون، بعد ذلك نود أن ندرس صلة هذه الظاهرة بتاريخنا الأدبي وبحياتنا القائمة. فما من ظاهرة أدبية إلا ولها جذور اجتماعية تتصل بالحياة النفسية للأمة، فهل هذه الظاهرة أصيلة؟ هل تنبع من موقف أمة تتحدر من مثل تاريخنا الأدبي العربي أم أنها بمجملها ظاهرة دخيلة وافدة على حياتنا وفودًا متعفسًا على نحو ما وفدت عشرات الأشياء الأخرى من الغرب؟
إن الظواهر الأدبية تخضع للقانون العام الذي يتحكم في الظواهر كلها. فكل ظاهرة مندفعة في الأمة تعبر عن وجود نقص ما في الاتجاه الذي تندفع نحوه الظاهرة. وإذا بالغنا اليوم العناية بالمضمون، فإن معنى ذلك أن في أعماقنا إحساسًا بأننا كنا سابقًا نبالغ في العناية باللغة حتى اختل التوازن. وذلك حق من واجبنا أن نعترف به. إن أدبنا الحديث قد خضع لحركة التموج التطوري الطبيعي فانتقل من تطرف أدباء الفترة المظلمة في التمسك بشكليات الشعر ومظاهره السطحية الخارجية، إلى تطرف عصرنا في إهمال المظاهر الخارجية. على أن العشرين سنة الماضية من حياة الشعر العربي لا بد أن تكون قد استوفت حركة رد الفعل هذه استيفاءً تامًّا. هذا فضلًا عن أن ردود الفعل يجب ألا تقودنا من خطإ في أقصى اليمين إلى خطإ في أقصى اليسار. فكلا اليمين المتطرف واليسار المتطرف خطأ في هذه الحالة، ولا بد لنا أن نقف في الوسط، مسيطرين تمام السيطرة، على المضمون والأداة في وعي واتزان. وإلا فلا بد لنا أن نبقى أطفالًا مخطئين إلى الأبد نُضيع مرة الشكل لفرط حرصنا على المضمون، ونُضيع في المرة التالية المضمون بسبب إيثارنا للشكل.
والواقع أن السبب المباشر في استمرار حركة رد الفعل هذه أطول مما يصح هو أن الناقد العربي يقف اليوم وقفة خشوع وتقديس أمام النقد الأوروبي ونظرياته الوافدة، وكأن ذلك النقد نموذج في الإبداع والعبقرية لا يمكن أن يصله الفكر العربي إلا بالتقليد والاقتباس والنقل. وفي

الصفحة 333