كتاب قضايا الشعر المعاصر

غمرة هذه العقيدة الواهمة، أغلق الناقد العربي الباب على منابع الفكر والخصوبة والموهبة في ذهنه وراح يغترف من معين الأساتذة النقاد الأوروبيين، دون أن يفطن إلى أن النقد الأوروبي يتحدر من تاريخ منعزل انعزالًا تامًّا عن تاريخنا. وكيف يتاح لنا أن نطبق أسس ذلك النقد الأجنبي على شعرنا الذي يتدفق من قلوب غير تلك القلوب، وعصور غير تلك العصور؟ كيف يتاح لنا أن نحقق ذلك التطبيق إلا بطفرة متعسفة ظالمة يقع القسر فيها والضغط على الشعر العربي أكثر ما يقع؟ ومن يجرؤ أن يزعم أن الذهن العربي ليس مفعمًا بالخصب والحياة، وأننا لا نقتله قتلًا عندما نضغطه في قوالب من التفكير الأوروبي جاءونا بها مؤخرًا وشهروها في وجوهنا؟ إننا لا نصدر في عقيدتنا هذه عن تعصب ولا عن ضعف إيمان بغنى الآداب الأوروبية وجمالها. ولكننا نقول، ونصر على القول، إن لآدابنا العربية شخصيتها المستقلة وإن النقد الذي يصلح لشعرنا يختلف بالضرورة، عن النقد الأوروبي، ولا بد لنا أن نستقرئ نحن القواعد، من شعرنا، ومن أدبنا، في هذا الوطن العربي، وباللغة العربية.
وليست الظاهرة التي ندرسها في هذا الفصل إلا نموذجًا واحدًا من نماذج كثيرة للضلال المحزن الذي يقع فيه الناقد العربي إذا هو أسلم قياده مغمض العينين للنقد الأجنبي الوافد. ذلك أن الناقد الفرنسي مثلًا، قلما يحتاج إلى أن يفرد بابًا لنقد الأخطاء اللغوية والنحوية على نحو ما يحتاج الناقد العربي وذلك لمجرد أن المادة التي ينقدها ذاك خالية من الأخطاء فعلًا، وإذن فعلى أي وجه يستطيع الناقد العربي أن يقلده وهو يواجه قصائد مثقلة بالأخطاء؟ إن المحاكاة، في هذه الحالة، لا تتم إلا بأن يتخلى الناقد العربي عن مسئوليته فيقف متفرجًا على هموم القصيدة العربية تاركًا شعرنا يعاني من مشكلاته دونما يد تُمد لانتشاله أو صوت في الدفاع عنه.
على أن النقد الأوروبي لا يقف في ضرره عند هذا، وإنما ينصب لناقدنا شركًا أخطر. هذه النظريات الأدبية الممتعة، وتلك المذاهب

الصفحة 334