كتاب حياة محمد ورسالته

وسمو الفكر اللذين لا يتيسّران إلا بفضل الثقافة. إن كل ما يستطيع ذلك الشعر أن يعتزّ به هو جمال اللغة. كانت ثمة، من غير ريب، بعض السّمات النبيلة في الخلق العربي. فقرى الضيف، وحبّ الحرية، والجراءة، والرجولة، والولاء القبليّ، والكرم، كانت بعض الصفات التي تفوّق بها العربيّ على اقرانه جميعا. ولكن هل تستطيع بضع فضائل، في ذات نفسها، وبخاصة حين ترجحها حالة من الامعان في البربرية والجلافة، أن تعتبر قواما لحضارة؟ فجنبا إلى جنب مع قرى الضيف وحسن وفادته كان من المألوف عند [بعض الجاهلين] ان يسلبوا عابري السبيل. وعاطفة الوطنية القبلية، برغم أنها محمودة في ذاتها، كانت قد شوّهت بالإفراط وإساءة التطبيق.
فكانت المنازعات التافهة بين الافراد كثيرا ما تؤدي إلى إضرام نار الحرب الرهيبة وإلى تأريث الاحقاد والثارات الدامية المتوارثة من جيل إلى جيل. وقصارى القول، فأن الافق العالمي كله كان في تلك الفترة ملبّداً بأدكن غيوم الكفر والفسوق. كانت الفضائل الرفيعة مجهولة بالكلية.
وليس من ريب في أن العرب أعلنوا ايمانهم بوحدانية الله، ولكن ايمانهم ذاك كان ضحلا إلى أبعد الحدود. لقد كذّبت حياتهم العملية إقرارهم الشفهي غير النابع من القلب. كانوا نزّاعين إلى الوثنية، متوهمين ان الله الكلّي القدرة قد عهد في أداء مختلف وظائف الكون إلى عدد من الآلهة، والآلهات، والاوثان. ومن هنا كانوا يتوجهون إلى هذه ملتمسين بركاتها كلما باشروا عملا أو فكروا بمشروع.
وهكذا فأن ايمانهم بوحدانية الله كان عقيدة جوفاء، لا يكاد يجد لنفسه مكانا في نظام حياتهم العملية. وإلى جانب الأوثان اعتبروا الهواء، والسماء، والقمر، والنجوم مهيمنة على مصائرهم وأقدارهم، وعبدوها بوصفها ذاك. بل لقد انحدروا إلى درك أسفل فعبدوا الحجارة،

الصفحة 22