كتاب حياة محمد ورسالته

رقيقة مفعمة بالمودة والحنان. وكان من دأب اليهود أن يحيّوه قائلين «السّام عليكم» ، اعني الموت لكم، بدلا من «السلام عليكم» .
وإذ سمعت عائشة ذلك لم تتمالك نفسها عن القول «الموت لكم أنتم!» ولكن الرسول لم يقرّ ذلك قائلا ان الله لا يحبّ الكلام الفظ.
وكانت أمانته واستقامته واخلاصه قد طبّقت آفاق بلاد العرب كلها، حتى لقد عرف ب «الأمين» . ولقد تعيّن على كبير أعدائه، ابي جهل، ان يقرّ بأنه لا يستطيع ان يتهمه بالكذب، ولكنه كان يعتبر الرسالة التي جاء بها باطلة. وشهد عدوّ له آخر، هو النّضر بن الحارث، على امانة الرسول، فقال على مسمع من أصحابه:
«لقد كان محمد غلاما فيكم، فكان أصدق الجميع وأعظمهم أمانة.
والآن وقد شبّ فيكم وحمل اليكم رسالة تزعمون أنه ساحر؟ وحق الاله انه ليس بساحر!» كان إذا ما أعطى عهدا وفي به مهما تحرّجت الحال وغلا الثمن. فقد الزم نفسه، في إحدى مواد اتفاق الحديبية، بأن يردّ إلى قريش أيما مسلم مكّي يفد على المدينة لاجئا. فما كان منه إلا أن نفذ ذلك الاتفاق بأمانة واخلاص في ظروف فجّرت الدم من أعين المسلمين نفسها، كما روينا من قبل. أما في العفة والتقوى فقد كان نموذجا كاملا. فقد عاش حياة طاهرة إلى أبعد الحدود، طوال عهد عزوبته حتى الخامسة والعشرين. وحتى منتقصو قدره الأشدّ تعصبا عليه لا يستطيعون ان يشيروا إلى أيما لطخة، مهما ضؤلت، في صفحة أخلاقه.
وكان العفو جوهرة أخرى بالغة الأشعاع في شخصية الرسول. لقد وجدت فيه تجسّدها الكامل. ولقد أوصاه القرآن الكريم ب «أن يأخذ بالعفو ويأمر بالعرف ويعرض عن الجاهلين.» * ولقد جاءه تفسير ذلك من لدنه تعالى على هذا النحو: «صل من قطعك، وأعط
__________
(*) السورة 7، الآية 199.

الصفحة 273