كتاب حياة محمد ورسالته

ولئن كان العرب قد بلغوا هذه المرتبة من السمو الروحي فأن منجزاتهم الدنيوية لم تكن أقلّ عظمة بحال. لقد احتلوا مقام الصدارة بين فاتحي العالم الجبارين. كانت الامبراطوريات العظيمة تذوب كالثلج أمام جحافلهم. وهم لم يخضعوا مقاطعات مترامية الأطراف فحسب، بل أنشأوا اسلوبا في السياسة أيضا حفظ عليهم قوّتهم طوال اثني عشر قرنا كاملة، بصرف النظر عن استهتار الاجيال المتأخرة. وبكلمة موجزة، كانوا أتقى عابدي الله وأكثر الفاتحين حظا من النجاح، على حد سواء. وبالاضافة إلى منجزاتهم في هذين الحقلين طوّروا فروعا من العلم مختلفة نوّرت العالم، الغارق آنذاك في ظلام دامس.
بل إن ثمة ما هو أعجب من ذلك، وهو ان هذا كله أنجز في عقدين من الزمان ليس غير. وهكذا يتضح أن تعاليم الرسول كانت تتسم بطابع الشمول الكليّ، وانها كانت معدّة لتطوّر ملكات الانسان تطويرا كاملا. فليس ثمة أيما علة بشرية إلا وفي تلك التعاليم علاج لها.
وكما ان أعظم الاطباء ليس هو ذلك الذي يدّعي هذا ولكن الذي يشفي أشدّ الامراض استعصاء في أكبر عدد من الحالات، كذلك فان أعظم المصلحين ليس هو ذلك الذي قد يدّعي هذا، ولكن الذي يحدث اعظم قدر من الاصلاح. وهذا هو المحك الذي يرفع الرسول الكريم مقاما عليّا في عين أصحاب الحصافة والعقل الراجح.
والنقطة الثانية التي تميّز محمدا من سائر المصلحين الروحيين العظام وأنبياء العالم تتصل بعالميّة رسالته. فقد كانت رسالة كل من اولئك الانبياء مقصورة على شعب بعينه. فقد حمل كل نبي رسالة النور والهداية إلى أمة مخصوصة أو بلد مخصوص. وليس من ريب في أن تطهير النفس البشرية كانت هي رسالة كل منهم، ولكن هذه الرسالة كانت محدودة دائما. أما رسالة محمد فكانت كونية، ونوره كان عالميا، ونطاق مشاركته الوجدانية كان يستغرق البشرية كلها. قال

الصفحة 280