كتاب حياة محمد ورسالته

وإنه لمن الأمور المعروفة بالتجربة العامة أننا لا نستطيع تحقيق أيما ضرب من التقدم في أي حقل من حقول الحياة إلا وضعنا نصب أعيننا هدفا محددا، ومثلا أعلى واضحا، لكي يستحثنا ذلك على بذل أقصى الجهد وأشقّه. والواقع ان كل رسول من الرسل السابقين أقام نصب عينيه مصلحة شعبه هو، على اعتبار ان خدمة تلك المصلحة كانت رسالة حياته المحدّدة. ولو قد حذا الرسول الكريم حذوهم فجعل من مصلحة بلاد العرب هدف حياته الأوحد إذن لأحبط الهدف نفسه الذي من أجله بعث. كان عليه أن يمحو جميع هذه الاحقاد القومية والجغرافية، وان يضع الاساس «لدين كونيّ» ، ويصهر الجماعات المتعددة في كلّ متناغم- في اخوّة انسانية شاملة. لقد كافحت الاديان السالفة لصهر الافراد في جماعات- وهو صنيع يشكّل في ذات نفسه خدمة جليلة- ولكن الاسلام، دين الفطرة، إنما جاء ليصهر هذه القوميات الصغيرة في أخوّة كونية عريضة. وهكذا، بينا قصر الانبياء المتعددون الذين ظهروا قبل البعثة المحمدية رسالتهم على هذه الطائفة من الناس أو تلك قيّض للرسول الكريم شرف صهر هذه المجموعات المتنافرة من الكائنات البشرية في اخوّة متناغمة واحدة. وهكذا فأن ميزة الرسول الثالثة تقوم على هذه الحقيقة: وهي أنه فيما جاء الانبياء الآخرون ليعلّموا الناس سرّ الوحدة والتقدم القوميين فصّل هو الحقيقة العظمى القائلة بوحدانية الجنس البشري كله، ورسم سبل الحياة الرئيسية والفرعية كلها للذرية، لا ذرية هذه الامة أو تلك، ولكن لذراري الجنس البشري برمته.
وإلى هذا، فان رسالة كل من الانبياء السالفين كانت مقصورة على تنمية وجه بعينه من وجوه الخلق البشري. وهكذا فأن حياة كل منهم تعتبر نموذجا لهذا الجانب من جوانب الاخلاق الانسانية أو ذاك.
ولكن الرسول الكريم بعث لتطوير الفطرة البشرية بوصفها كلّا كاملا،

الصفحة 283