كتاب حياة محمد ورسالته

الصدمات وأقساها. وإذا كان قوام العظمة إقامة مملكة الله على الارض فأن الرسول يتمتع حتى ههنا بمركز لا سبيل إلى مضاهاته. لقد محا الوثنية والشرك من بلاد العرب كلها وأضاءها بالنور الالهي. وإذا كان قوامها التخلق بالاخلاق السامية فمن ذا الذي يستطيع ان يبزّ ذلك الذي أقرّ العدوّ والصديق بأنه «الأمين» ؟ وإذا كانت عظمة الانسان كامنة في الفتح فليس من ريب في ان التاريخ لا يستطيع أن يفخر بنظير للرسول الذي ارتفع من منزلة يتيم بائس لا حول له ولا طول إلى منزلة فاتح جبار، بل إلى منزلة ملك أسس امبراطورية عظيمة صمدت طوال ثلاثة عشر قرنا لمحاولات عالمية متحدة هدفت إلى تقويضها والقضاء عليها؟ وإذا كانت الروح الدافعة الحية التي ينفخها زعيم في أتباعه هي محكّ العظمة فان اسم النبي لا يزال يفعل، حتى في يوم الناس هذا، مثل فعل السحر في نفوس اربعمئة مليون* انسان منتشرين في أرجاء العالم كله، فهو يشدّهم جميعا برباط قوي من الاخاء، بصرف النظر عن الطبقة الاجتماعية، أو اللون، أو المنطقة.
وتتمثل ميزة الرسول السادسة في أنه لم يكن ثمرة بيئته. والواقع ان حالة المجتمع السائدة هي التي تخلق رجله العظيم. فكلما استبدّ بشعب ما، مثلا، توق عام إلى الحقيقة الماورائية (الميتافيزيقية) ظهر فيهم بالضرورة فيلسوف من الفلاسفة. وإذا ما عصف بجماعة ما حبّ الفتح كان ظهور الفاتح أمرا محتوما. وكذلك يبرز المعلمون الاخلاقيون، والشعراء، والنحاتون، وبكلمة مختصرة، النوابغ في كل حقل من حقول الحياة، في كل بيئة تتطلب بروزهم لاداء هذه المهمة أو تلك تطلّبا عاما. وإنما يجسّد هؤلاء الزعماء في ذواتهم
__________
(*) ذلك كان تعداد المسلمين عند تأليف هذا الكتاب. وليس من ريب في انه اليوم يبلغ ضعفي هذا الرقم، أو يكاد. (المعرب)

الصفحة 285