كتاب الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية (اسم الجزء: 1)
فأجبته: بلى، إنه مبتكر ورائد، ولكني لم أعده صاحب مدرسة، لانها غير متبوعة، ولم يأت من اتبع منهجه! وعندما صدرت الطبعة اليمنية نقدتها في مجلة " الرسالة " (¬1) القاهرية، وأشرت إلى طبعة ليدن التي حققها زترستين، وكلتا الطبعتين لم تستغرق من معجم نشوان الا جزءا يسيرا، وطبعة اليمن مزدحمة بمئات الغلطات، وغير محققة بتة، وخير منها طبعة زترستين. ومنهج نشوان بن سعيد الحميري الذي لم يتبعه أحد بعده قد وضحه هو نفسه في مقدمة معجمه إذ قال: " وقد صنف العلماء رحمهم الله تعالى في ذلك كثيرا من الكتب، وكشفوا عنه ما يستر من الحجب، واجتهدوا في حراسة ما وضعوه، وما حفظوه، وصنفوا من ذلك وجمعوه، ورووه عن الثقات وسمعوه، فمنهم من جعل تصنيفه حارسا للنقط. وضبطه بهذا الضبط، ومنهم من حرس تصنيفه بالحركات بأمثلة قدروها، وأوزان ذكروها، ولم يأت أحد منهم بتصنيف يحرس جميع النقط والحركات، ويصف كل حرف مما صنفه بجميع ما يلزمه من الصفات، ولا حرس تصنيفه من النقط والحركات الا بأحدهما، ولا جمعهما في تأليف لتباعدهما، فلما رأيت ذلك ورأيت تصحيف الكتاب والقراء، وتغييرهم ما عليه كلام العرب من البناء حملني ذلك على تصنيف يأمن كاتبه وقارئه من التصحيف، بحرس كل كلمة بنقطها وشكلها، وبجعلها مع جنسها وشكلها، وبردها إلى أصلها، وجعلت فيه لكل حرف من حروف المعجم كتابا، ثم جعلت لكل حرف معه من حروف المعجم بابا، ثم جعلت كل باب من تلك الابواب شطرين: أسماء وأفعالا، ثم جعلت لكل كلمة من تلك الاسماء والافعال وزنا ومثالا، فحروف المعجم تحرس النقط، وتحفظ الخط، والامثلة حارسة الحركات والشكل، ورادة كل كلمة من بنائها إلى الاصل، فكتابي هذا يحرس النقط والحركات جميعا، ويدرك الطالب فيه ملتمسه سريعا، بلا كد مطية غريرية (¬2) ، ولا إتعاب خاطر ولا روية، ولا طلب شيخ يقرأ عليه، ولا مفيد يفتقر في ذلك إليه، فشرعت في تصنيف هذا الكتاب، مستعينا بالله رب الارباب، طالبا لما عنده من الاجر والثواب، في نفع المسلمين، وإرشاد المتعلمين، وكان جمعي له بقوة الله عز وجل وحوله،
¬_________
(¬1) العددان: 949 و 950 الصادران في 9 و 17 ذي القعدة سنة 1370 هـ (10 و 17 سبتمبر سنة 1951) السنة التاسعة عشرة.
(¬2) جاء في طبعة زترستين وطبعة اليمن: " غريزية " وهو خطأ، صوابه: " غريرية " نسبة إلى الغرير: فحل من فحول العرب، وعندما كتب العلامة الشيخ عبد القادر المغربي كلمة عن " شمس العلوم " بمجلة المجمع العلمي بدمشق، كنت في زيارة المجمع، وكانت بيده تجربة مقاله، وأطلعني عليها، ولم يفطن إلى خطأ " غريزية " فذكرت له الصواب فسر - رحمه الله - وذكر ما رأيته من الصواب، ودفعته أمانته إلى نسبة ذلك إلي، وعدل مقاله.
الاثر الخالد معجم الصحاح تهذيبه ومقدمته بقلم الدكتور بكري شيخ أمين أعوذ بالله أن أكون مبالغا إذا قلت: إن التصدي لانشاء معجم لغوي، أو العكوف على تحقيقه عمل كبير، وجهد عظيم، وسهر طويل، وبذل لنور العينين سخي.. بل هو إلى الخطر أقرب، إذا كان القائم به ذا هوى متبع، أو ذا عداوة لمذهب، أو رأي، أو دين ... إن أقل ما يجب أن يتضلع به هذا المقدم على مثل هذا العمل الكبير هو المعرفة العريضة، الشاملة، والمحيطة، والصحيحة لكتاب الله: تاريخا، وعلوما، وتفسيرا، وقراءات، وسواها، والاطلاع الكامل على حديث سيد البشر صلى الله عليه وسلم وما يدور حوله من علوم وفنون وآداب، وعلى أيام العرب ولغاتها وتاريخها وآدابها وأعلامها وأشعارها وأقوالها، وعلى المكتبة العربية والاسلامية وما تضم وتحتوي، وعلى الاعمال المعجمية وما فيها من حسنات وسيئات، وعلى قدر طيب من اللغات الاخرى، وفوق هذا أن يكون ذا عقل راجح، وحكم عادل، وحياد علمي مبين. لخير لنا أن نوجز الشروط فنقول: على من يقدم على مثل هذا العمل أن يكون دائرة معارف حية، تتنفس، وتأكل وتشرب، وتمشي بين الناس. ولعمري إن هذا مطلب عسير، وشرط يكاد يقتل صاحبه، لا يبلغه إلا من آتاه الله قوة، ومتعه بالصبر والايمان العميق. وإذا كان لنا - نحن العرب - أن نباهي بمن توافرت فيهم تلك
الصفحة 16
2563