كتاب أصول الوصول إلى الله تعالى

فلو توهم العبد المسكين هذه الحال وصورتها له نفسه وأرته إياها على حقيقتها , لتقطع - والله - قلبه , ولم يلتذ بطعام ولا شراب , ولخرج إلى الصعدات يجأر إلى الله ويستغيث به ويستعتبه فى زمن الاستعتاب , هذا مع أنه إذا آثر شهواته ولذاته الفانية التى هى كخيال طيف أو مزنة صيف , نغصت عليه لذاتها أحوج ما كان إليها , وحيا بينه وبينها أقدر ما كان عليها , وتلك سنة الله فى خلقه كما قال - تعالى -:
" حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ " (يونس: 24).
وهذا هو غب إعراضه وإيثار شهوته على مرضاة ربه , يعوق القدر عليه أسباب مراده فيخسر الأمرين جميعا , فيكون معذبا فى الدنيا بتنغيص شهواته وشدة اهتمامه بطلب ما لم يقسم له , وإن قسم له منه شىء فحشوه الخوف والحزن والنكد والألم , فهم لا ينقطع , وحسرة لا تنقضى , وحرص لا ينفذ , وذل لا ينتهى , وطمع لا يقلع .. هذا فى هذه الدار.
وأما فى البرزخ فأضعاف أضعاف ذلك: قد حيل بينه وبين ما يشتهى , وفاته ما كان يتمناه من قرب ربه وكرامته ونيل ثوابه , وأحضر جميع غمومه وأحزانه.
وأما فى دار الجزاء: فسجن أمثاله من المبعودين المطرودين , واغوثاه ثم واغوثاه بغياث المستغيثين وأرحم الراحمين.
فمن أعرض عن الله بالكلية أعرض الله عنه بالكلية , ومن أعرض الله عنه لزمه الشقاء والبؤس والبخس فى أحواله وأعماله , وقارنه سوء

الصفحة 327