كتاب مشكلة الثقافة

غير التوقع أن يأتي يوماً ما تهديدٌ من إفريقية، تحت شعار إمبراطورية عسكرية؛ وإذا ما احتاج الأمر إلى التدليل على صحة الفرض دون تأسيس على الاعتبار الأخلاقي وحده، فإننا نجد الاتجاه يتحدد طريقه بقوة الواقع، فإفريقية لا تملك في الواقع رصيداً من القنابل الذرية، ولاهي تملك صناعة ثقيلة لإنتاجها، وإذن فمن غير الممكن أن تسطر مشكلاتها بلغة القوة، وإنما على العكس من ذلك سوف تسطرها- بقوة واقعها- بلغة البقاء.
فالمشكلة من الناحية النفسية واضحة لا لبس فيها، فإن المزاج الإفريقي لا يحمل أية عقدة من نوع إمبراطوري، وليس في صدره أية نواة لإرادة قوة تأتي بثقافة إمبراطورية، وإذن فنحن من أول خطوة أمام ثقافة حضارية.
وفي ظل هذه الصياغة للمشكلة ينبغي تحديد العنصر الآخر: (الرقعة) فما هي الحدود التي يجب أن نضعها للثقافة الإفريقية، تلك الحدود التي في داخلها سوف تجد منابع إلهامها من ناحية، كما تجد فيها الأعمال التي ينبغي أن تقوم بها؟. وفي كلمة مجملة: ما هي مهماتها؟
إن من الواضح أن الضمير الإنساني في القرن العشرين لم يعد يتكون في إطار الوطن أو الإقليم، هذا مع اعترافنا بأن أرض المولد التي يعيش عليها الناس تمدهم بالبواعث الحقيقية لمواقفهم العميقة، غير أن الضمير الإنساني في القرن العشرين إنما يتكون على ضوء الحوادث العالمية التي لا يستطيع أن يتخلص من تبعاتها، فإن مصير أي جماعة إنسانية يتحدد جزء منه خارج حدودها الجغرافية.
فالثقافة أصبحت تتحدد أخلاقياً وتاريخياً داخل تخطيط عالمي، لأن المنابع التي سوف تستقي منها أفكارها ومشاعرها، والقضايا التي سوف تتبناها، والاستفزازات التي سوف تستجيب لها، والأعمال التي سوف تقوم بها، لا تستطيع هذه كلها أن تتجمع في أرض الوطن؛ فالثقافة الإفريقية مجالها العالم ضرورة،

الصفحة 121