كتاب من أجل التغيير

الحقيقة أنه توجد تقنية برلمانية. ولكن هذا التأكيد الذي لا يمكن إنكار حسن النية فيه، يضع نوعا من الحد العشوائي لرسالة اللغة العربية. ولكي نكون عادلين في حكمنا هذا، نود أن نستشهد، بادئ ذي بدء، باعتراض أستاذ موثوق به في هذا المضمار، هو ماسينيون. لقد قال لنا هذا المستشرق البارز مؤخرا: إن اللغات السامية تمتلك تركيبا مزدوجا: الأول هو ما سمح لها بتلقي الكتابات المنزلة، والثاني يتعلق نوعا ما بما سمح لهذه اللغات، فيما بعد، أن تلحق وأن تقود كل الفكر الإنساني، وعلى الأخص الفكر العلمي، خلال مئات السنين.
الواقع أن السيد (جو- بريسونيار) لم يخطئ البتة في تأكيده أن "اللغة الفرنسية تعبر أفضل تعبير عن العلوم الوضعية والفكر الغربي". ولكنه يشوه التاريخ، حين يضيف، بالأسلوب نفسه، وبخصوص الفكرة ذاتها، أنها (وارثة الحضارة اللاتينية اليونانية). لكنه لو ادعى لهذا الفكر بميراث الثقافة القروسطية (ثقافة القرون الوسطى) بدءا بالقديس توما الإكويني، لكان ذلك أشد عدلا وأصوب.
في الحقيقة، الفكر العربي واللغة العربية، هما اللذان التقطا التراث اليوناني ونقلاه، بعد أن طوراه تطويرا ملحوظا، إلى أوروبا في القرون الوسطى. ولا شك أن السيد (جو- بريسونيار) يسلم بأن التقاط هذا التراث، وتطويره ونقله، يتطلب من اللغة العربية، أن تكون شيئا يختلف عن (لغة الدنين) البحتة. والواقع أن هذه اللغة إذا كانت تستطيع اليوم أن تصبو، بوجهها الديني، إلى عالمية حقيقية لكونها تعبر عن فكر 500 مليون مسلم، فإنها تستطيع كذلك، أن تعبر عن الفكر التقني لأي حضارة كانت، كما كانت تفعل منذ زمن بعيد في قرطبة وبغداد، إبان العصور الذهبية.
أليس شيئا معبرا أن تكون اللغات الأوروبية، وعلى الأخص اللغة الفرنسية، قد أخذت عن اللغة العربية التقنية التي كانت الأساس اللساني لانطلاقة العلوم الحديثة؟

الصفحة 61