كتاب السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار

والحاكم أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر برحض آنية أهل الكتاب لما قال له إنهم يشربون فيها الخمر ويطبخون فيها لحم الخنزير فإن المراد بأمره صلى الله عليه وسلم بالغسل أن يزيلوا منها أثر ما يحرم أكله وشربه ولا ملازمة بين التحريم والنجاسة كما عرفت.
ولفظ الحديث "إن وجدتم غيرها فكلوا فيها واشربوا وإن لم تجدوا غيرها فارحضوها بالماء وكلوا واشربوا"
وفي لفظ الترمذي "أنقوها غسلا وأطبخوا فيها" [الترمذي "1857"] .
فهذا يدلك على أن الكلام في الأكل والشرب فيها والطبخ لما يطبخونه فيها تحذير من اختلاط مأكولهم ومشروبهم بمأكول أهل الكتاب ومشروبهم للقطع بتحريم الخمر والخنزير ومما يؤيد ما ذكرناه ما أخرجه أحمد وأبو دأود عن جابر قال كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنصيب من آنية المشركين واسقيتهم فنستمتع بها فلا يعيب ذلك عليهم.
وأخرج أحمد عن أنس أن يهوديا دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلي خبز شعير وإهالة سنخة فأجابه. [أحمد "3/210 – 211"] .
قوله: "والكلب"
أقول: استدلوا على ذلك بحديث "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم" [مسلم "280"، أحمد "4/86"، أبو دأود "74"، النسائي "1/177"، ابن ماجة "365"] الحديث. وهذا حكم مختص بولوغه فقط وليس فيه ما يدل على نجاسة ذاته كلها لحما وعظما ودما وشعرا وعرقا وإلحاق هذه بالقياس على الولوغ بعيد جدا ولا سيما مع حديث ابن عمر عند أبي دأود والإسماعيلي وأبي نعيم والبيهقي بلفظ كانت الكلاب تبول في المسجد وتقبل وتدبر زمان رسول الله فلم يكونوا يرشون شيئا وأخرجه البخاري بدون لفظ تبول ولكن ذكره الأصيلي في رواية إبراهيم بن معقل عن البخاري بزيادة لفظ تبول وهذا مما يقوي الاقتصار على إفادة حديث الولوغ وذلك لحكمة للشارع لا نعقلها والواجب علينا العمل بما دلت عليه النصوص وإن لم نعقل الحكمة التي وردت لها.
ومما يدل على ما ذكرناه إيجاب التسبيع والتتريب فإنه مخالف لما ورد في غسل سائر النجاسات ومما يؤيد ما ذكرناه من الاختصاص لحكمة لا نعقلها.
قوله: "والخنزير".
أقول: استدلوا على ذلك بقوله تعالي: {أو لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} ويجاب عنه بما قدمنا من أن المراد بالرجس هنا الحرام كما يفيده سياق الآية والمقصود منها فإنها وردت فيما يحرم أكله لا فيما هو نجس فإن الله سبحانه قال: {قُلْ لا أجد فِي مَا أوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أو دَماً مَسْفُوحاً أو لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145] . أي حرام. ولا تلازم بين التحريم والنجاسة فقد يكون الشيء حرأما وهو طاهر كما في قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النسائ: 23] ، ونحو ذلك واستدلوا أيضا بحديث أبي ثعلبة الخشني

الصفحة 26