كتاب السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار

والحاصل أن الماء طاهر مطهر فمن ادعى خروجه عن كونه طاهرا أو مطهرا لم يقبل منه ذلك إلا بدليل وهذا الأصل هو مجمع عليه فالرجوع إليه متحتم حتى ينقل عنه ناقل صحيح صالح للاحتجاج به ولا يصلح للاحتجاج ما ورد في أمور خاصة لم يصرح فيها بأن السبب هو الاستعمال كحديث النهي عن الاغتسال في الماء الدائم فإنه لم يرد البيان من الشارع بأن سبب النهي أن يصير مستعملا والمستعمل غير مطهر.
وغاية ما يمكن أن يستخرج منه أن علة النهي هي أنه يفسد الماء بذلك لكونه دائما غير جار ويؤيد ذلك أنه ورد النهي عن البول في الماء الدائم كما ورد النهي عن الاغتسال فيه بل ورد النهي عن الجمع بينهما في حديث واحد فلا يصلح ذلك دليلا بمحل النزاع.
وهكذا حديث "إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا فإنه لا يدري أين باتت يده"، فإنه لا دلالة فيه على محل النزاع لأن النهي عن إدخال اليد في الإناء والأمر بغسلها قبل ذلك إنما هو لخشية أن تكون قد تلوثت بنجاسة حال النوم.
والكلام هنا إنما هو في المستعمل لقربة لا في تطهير النجاسات.
ولو قدرنا ورود دليل فيه رائحة دلالة لكان غاية ما فيه هو تخصيص ذلك الأصل المصحوب بالبراءة فيجب الاقتصار على محل النص ولكنه لم يرد ما هو بهذه المنزلة قط.
وأما ما ذكره من قوله: "ولا غير بعض أوصافه مما زج" فالتحقيق أن ذلك الممازج إن خرج به اسم الماء المطلق كما يقال ماء ورد ونحوه فليس هذا الماء هو الماء الذي خلقه الله طهورا وإن لم يخرج عن اسم الماء المطلق فهو طهور وإن تغير بعض أوصافه فإن ذلك لا يضره ولا يخرجه عن كونه طهورا ولا فرق بين أن يكون ما تغير به مطهرا أو غير مطهر أو بما هو من حيواناته أو بمفرده أو بممره أو بغير ذلك.
هذا يغنيك عن هذه المسائل التي ذكرها المصنف يرحمه الله وذكرها غيره من المفرعين فإنها مبنية على غير أساس.
قوله: "ويترك ما التبس بغصب أو متنجس".
أقول: هذا صواب فإنه بعد أن يعلم أن أحد المائين متنجس ثم يلتبس بالطاهر أو يعلم أن أحدهما مغصوب ثم يلتبس بالمباح لا يجوز له أن يتطهر بأحدهما قبل أن يرتفع اللبس لأنه متعبد برفع حدثه بما هو صالح للرفع مجزىء للرافع ومع اللبس لم يفعل ما هو مأمور به لجواز أن يتطهر بما يجزىء التطهر به والتحري إذا أمكن به أن يتعين ما يجزىء مما لا يجزىء فهو مقدم على الترك وليس من شرطه زيادة آنية الطاهر بل يجب عليه أن يقدم التحري مطلقا وإلا وجب عليه ترك الجميع وعدل إلي التيمم إذا لم يجد ماء آخر محكوما بطهارته غير ملتبس بنجس أو غصب.
ووما يرشد إلي ما ذكرناه قول الله عز وجل: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] .وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم". [البخاري "6858"، مسلم "1337"] .

الصفحة 39