كتاب الجامع الكبير في صناعة المنظوم من الكلام والمنثور

الشمس والقمر ليلة أربع عشرة من الشهر، فقالت طائفة: تطلع الشمس والقمر يرى. وقالت طائفة: يغيب القمر قبل أن تطلع الشمس. فتراضوا برجل جعلوه بينهم حكماً، فقال واحد منهم: أن قومي يبغون علي، فقال له الحكم: (أن يبغ عليك قومك لا يبغ عليك القمر) فذهبت مثلا. ومن المعلوم أن قول القائل (أن يبغ عليك قومك لا يبغ عليك القمر) إذا أخذ على حقيقته من غير نظر إلى
القرائن المنوطة به، والأسباب التي قيل لأجلها، لا يعطي من المعنى ما قد إعطاء المثل؛ وذلك لأن المثل له مقدمات وأسباب، قد عرفت، وصارت مشهورة بين الناس معلمة عندهم، وحيث كان الأمر كذلك جاز إيراد هذه اللفظات في التعبير عن المعنى المراد. ولولا تلك المقدمات المعلومة، والأسباب المعروفة لما فهم من قول القائل (أن يبغ عليك قومك لا يبغ عليك القمر) ما ذكرناه في المعنى المقصود، بل ما كان يفهم من هذا القول معنى مفيد البتة، لأن البغي هو الظلم، والقمر ليس من شأنه أن يظلم أحداً، فكان يصير معنى المثل (أن كان يظلمك قومك لا يظلمك القمر) وهذا كلام مختل ليس بمستقيم.
فلما كانت الأمثال كالرموز والإشارات، التي يلوح بها على المعاني تلويحا، صار من أوجز الكلام وأكثره اختصاراً وحيث هي بهذه المثابة فلا ينبغي لمؤلف الكلام أن يخل بها.
وأما أيام العرب فإنها تتنوع وتتشعب، فمنها أيام فخار، ومنها أيام محاربة، ومنها أيام مذمة وعار، ومنها غير ذلك. ولا يخلو المؤلف من الانتصاب لوصف يوم يمر به، في بعض الأوقات، مشبهاً بذلك مماثلا له، فإذا جاء بذكر بعض تلك الأيام المناسبة لمراده، الموافقة له، وقاس عليه يومه، فقال: (أشهر من يوم كذا) أو (أسير)؛ أو ما جرى هذا المجرى،

الصفحة 16