كتاب فكرة الإفريقية الآسيوية

نحو النزعة الأوروبية في الوقت الذي تتحدد فيه معالم مستقبل إنساني على مستوى عالمي.
ولاشك في أن في (الحركة الأوروبية) التي اتخذت مركزها في استراسبورج ( Strasbourg) بعض المعالم الإيجابية التي ترشد أوروبا في طريقها نحو العالمية، ولكنها في الوقت نفسه تسجل انحسار الموجة الأوروبية عن العالم الذي أغرقته منذ قرنين من الزمان. ولعل الخسارة في هذه المرحلة تكون في أن يسجل هذا الانسحاب في المجال النفسي انطواء للضمير الإنساني. ومن المتفق عليه أن الموجة الأوروبية تخلف في التاريخ رصيداً محزناً من الخرائب الأخلاقية، وحقلاً من الأنقاض في النفس الإنسانية. ولكن إذا قلنا هذا فهل قلنا كل شيء؟ وهل يكفي أن نسطر سجلاً لشهداء الشعوب المستعمرة تحت حذاء الاستعمار؟
الواقع أننا حين ننظر جيداً إلى حقل الأنقاض الذي خلفته الوجة الاستعمارية وراءها، فإننا نراه مغطى (بغرين) مخصب ستجد فيه الحياة الجديدة فعلاً عناصر جوهرية لازدهارها في البلاد التي كانت من قبل مستعمرة. هذا الغرين غير مقتصر على الميادين التي تظهر فيها موهبة أوروبا للعيان- في كل ما يتصل بالتقدم المادي والصناعي- بل يتعداها إلى الميدان الروحي، حيث تبدو موهبتها غير مؤكدة في النظرة الأولى. لقد سببت حرية أوروبا جروحاً شنيعة للإنسانية، وأحدثت قروحاً رهيبة في بدنها، ولكنها في الوفت نفسه قد فتحت ثغرات في المجتمعات التي انسحبت من التاريخ، أو التي لم تدخله بعد، ومن هذه الثغرات جاءت نسمة جديدة، نسمة باعثة تحيي أشكالاً بليت، وتحرك حياة تجمدت، وكلما أردنا تحليل الأسباب التاريخية لهذه النهضات التي جددت العالم المستعمر خلال نصف القرن الماضي، فإننا نجد تأثير أوروبا، فجميع النهضات التي رأت النور في ضمير الشعوب المستعمرة قد تغذت في هذا الضمير نفسه بالغرين الذي أودعته فيه الموجة الأوروبية، فحركة الإصلاح التي تعتبر الشكل الروحي للنهضة في شمال إفريقية هي بلا جدال ثمرة الوعي الإسلامي، ونتيجة كفاحه ضد شكل

الصفحة 259