كتاب فكرة الإفريقية الآسيوية

وعليه فإن الموجة الأوروبية لم تأت للعالم الذي أغرقته بغمرة الرفاهة المادية فحسب- مثل الثلاجة الكهربية وغيرها- بل إنها قد أتته أيضاً بثروات روحية لا جدال فيها. لقد أودعت في (لاشعور) الشعوب المستعمرة، وفي ذاتيتها عناصر تتجلى في سلوكها الاجتماعي الجديد، في فنها، وفي أسلوبها، وفي تنظيمها، وفي نشاطها، وهكذا لا يمكن تحليل أي نشاط أفرسيوي اليوم دون أن نجد طرازه في الغرب. فالبرلمانات التي ظهرت في البلاد الأفرسيوية أياً كانت هي قطعاً صورة طبق الأصل من البرلمان الإنجليزي أو البرلمان الفرنسي.
فأي مشروع لوضع دستور ديمقراطي إنما يرجع ضرورة إلى الطراز الغربي، ولم يكن الاتصال بالعبقرية الغربية في جميع الحالات التي استلهم فيها هذا النموذج عن الطريق العملي الصناعي فحسب، ولكنه كان عن طرق ذاتية أيضاً. فإن المشاكل الإنسانية التي تثور بالصورة نفسها لا تتطلب الحلول نفسها فحسب، بل إنها تثير رد فعل أخلاقي واحد، ومشاعر موحدة أيضاً، ولقد كسب الجانب الاجتماعي أسبقية في نشاط هذه البلاد، ونشأ نموذج للمجتمع يحقق فيه الفرد رسالته في صورة بطولة اجتماعية، بعد أن كان يحققها في صورة بطولة حربية، وكل هذا بفضل العبقرية الغربية. وقد نتج عن هذا في البلاد التي تعرضت للتأثير الغربي أشكال من الوفاء جديدة، وصور جديدة من الولاء، ذات صبغة اجتماعية، وروابط أسمى من روابط النظام القبلي، فلقد أخلى الضمير القبلي مكانه للوعي القومي، وأثرى الضمير الديني بعناصر مدنية يدين بها للغرب. فعندما يتحدث العالم المسلم عن (الديموقراطية) يستعير بداهة مفهوماً غربياً، وعندما يقف نقابي مسلم ليتحدث بصوت منفعل متهدج فإن نسمة ذات أصول نقابية غربية هي التي تنساب خلال هذا الانفعال، نسمة الصراع المؤثر من أجل انتصار العدالة الاجتماعية. فجوهر التبادل الإنساني هو في هذه العناصر الذاتية قبل أن يكون في العناصر الموضوعية، فهناك اتصال سري بين الأنفس، وهذا هو الطريق المباشر الفعال لإغناء العبقريات. وإخصاب الأفكار الأصيلة لحضارة ما. فإذا تعمق عمانويل مونييه في ضميره بنظرة قلقة،

الصفحة 262