كتاب فكرة الإفريقية الآسيوية

فإن نظرته هذه قد تكشف لنا في ضميرنا عن أسباب القلق ذاتها. ولو أنه تعرض لتلك (الملاكمات الداخلية) التي تضع إيمانه موضع الاختبار فإن هذه الملاكمات تصيبنا، وتضع إيماننا موضع الاختبار أيضاً. وإن انفعاله أمام المأساة الاجتماعية، وأمام المشكلة الأخلاقية لينفض خمودنا أمام هذه المشكلات، ويبعث الحرارة في فتورنا إزاءها.
وقد حدث التبادل في كلا الاتجاهين فعلاً عن الطريق السري للضمائر، ويستطيع مؤرخو سيرة غاندي بلا شك أن يقرروا ميزانية ما يدين به للغرب في الناحية الروحية، ولكن هذه الميزانية يمكن أن تقرر في اتجاه آخر بتبيان ما يدين به الغرب لفلسفته. فإذا قال رجل الغرب في بعض الظروف الدرامية على لسان كامو ( Camus) (( إن قوة القلب وقوة الفكر والشجاعة تكفي لإيقاف القدر عند حده ... )) فإن أبسط المسلمين تواضعاً يستطيع أن يعلمه أن كفاح الإنسان لا يكون بطولياً ومخصباً ضد القدر- ذلك النور الخفي الذي يقود الإنسانية نحو غايتها الغامضة- وإنما يكون كذلك إذا كان موجهاً ضد القوى الغاشمة العمياء التي تعودنا أن نسميها (قدراً)، والتي تعمل على صرف الإنسانية عن غايتها، وأعتقد أن هذه (القدرية) في أبسط صورها عند المسلمين من شأنها أن تخصب ذاتية كامو. ولكن عندما يقول كامو من ناحية أخرى فكرته عن (الإنسان والتاريخ) وعندما يقول لنا: ((إن مهمة رجال الثقافة والعقيدة ليست في أن يخونوا الصراع البطولي، ولا أن يخدموه فيما يلازمه من قساوة ومجافاة للإنسانية ... )) فإن درسه هذا يزود المسلم بثروة ذاتية أخرى، وهو يذكرنا بأنه حتى في ظل قوة الاستعمار الملعونة، قد وضع نشاط الغرب على طريق التاريخ شعوباً أقصيت عنه بسيرها في دروب الخرافات والأساطير. وبث فيها- ولو عن غير قصد- إرادة السير في هذا السبيل، تلك الإرادة الخاصة التي أصبحت لا تفارق وعي كل شعب، تدفعه باستمرار إلى الحضارة. لقد كانت الحضارة من عمل اللاشعور عند الفرد، وهو العمل الذي لا يجند وعيه الموضوعي إلا بصفة استثنائية، عند بعض المؤرخين وعلماء الاجتماع مثل ابن خلدون، أعني عند

الصفحة 263