كتاب فكرة الإفريقية الآسيوية

الخصيص الذي جعل من الحضارة موضوعاً للدراسة، ومشكلة للتجلية والإيضاح.
ولكن الحضارة قد أصبحت مع الثقافة الغربية هدفاً مقصوداً، وعملاً شعورياً، وفناً، ووظيفة اجتماعية للإنسان تتطلب ذكاءه وإرادته، وهو يرى فيها غايته الأرضية. هذه الذاتية الجديدة قد وسعت أولاً حقل الحضارة نفسها، حين مدته من النطاق القومي والعنصري إلى النطاق العالمي والإنساني. ولكن الغرب حين حقق امتداد الحضارة في المكان بفضل قوته الصناعية قد أحدث تحولاً في طبيعتها التاريخية. فلم تعد الحضارة فيما يبدو خاضعة لقانون (الدورات) كما كانت في عصر ابن خلدون وأيضاً في عصر سبنجلر عندما كان يكتب عن (أفول الغرب).
ولو راجعنا- في ضوء التطورات الأخيرة- رأي فاليري في الوقت الذي كان فيه يتأمل النتائج المتوقعة للحرب العالمية الأولى، حين عبر عنها في تلك الصورة المأثورة ((الآن أدركنا نحن أن الحضارات فانيات .. )) لو راجعنا رأي فاليري اليوم لوجدناه قد أخطأ، إذ في ذلك الوقت لم تعد الحضارة لتكون فانية، لأن نطاقها قد بدلها خلقاً آخر. فأصبحت عالمية، وبذلك صارت خالدة.
ومع ذلك ففي الوقت الذي أراد فيه جون توينبي أن يختم كتابه الرائع (دراسة التاريخ) كانت ظاهرة (الدورات) لا تزال ذات وزن في استنتاجاته، ففي استنتاجه عن مستقبل الحضارة الغربية لم يكن عقله كمؤرخ على وفاق مع ضميره كإنسان غربي، فقد كان المؤرخ مأخوذاً فيما يبدو بفكرة (الأفول)، ولكن الإنسان يتجاوز هذا الخوف حين يصوغ للحضارة الغربية أمنية في ألا تغرق بدورها في محاولة (إنقاذ بالسيف) وهي محاولة قد تنتج عن غريزة الدفاع عن النفس، فهو يتمنى أن تصل مباشرة إلى ((نظام عالمي يقرب من ذلك الميثاق الذي دعا إليه دون جدوى بعض المسؤولين والفلاسفة الهلينيين خلال عصر الاضطرابات)) ثم أضاف قائلاً: ((إن ما نبحث عنه هو الموافقة الحرة للشعوب

الصفحة 264