كتاب فكرة الإفريقية الآسيوية

الحرة على العيش في وحدة، وأن تصنع دون إكراه بالقوة التوافق والتنازل اللذين بدونهما لا يمكن لهذا المثل الأعلى أن يتحقق)).
وإذا كانت أمنية الإنسان تذهب إلى هذا المدى البعيد، فذلك لأن المؤرخ الكبير يرى في منعطف التاريخ الحالي أو يستشعر التحول الذي يجتاز بالإنسانية المرحلة الثانية من تطورها، بعد التحول الذي دخلت به في التاريخ في بداية العصر الحجري الجديد، فهو يرى أن التطور الذي حول المجتمع البدائي في نهاية العصر الثلجي ( Glaciaire) إلى مجتمع من طراز جديد، أي إلى (حضارة) يمكن الآن أن يحول هذه الحضارة إلى طراز جديد هو (الحضارة العالمية).
وهذا التحول قد يغير توقعات التاريخ تغييراً تاماً بحيث لا يدع مجالاً لافتراض (الأفول)، إذ إن في التوقع الجديد لن يكون أمامنا سوى افتراض الكسوف الكلي والنهائي الذي لا يمكن أن تقوم به (نهضة). فمشكلة الحضارة تصاغ حينئذ في مصطلحات تستبعد مراحل التعديل، وتستبعد (عودتها) التي احتفظت بها حتى الآن حين داولت دوراتها خلال آلاف السنين. ويوضح هذا أن الموجة الأوروبية قد حملت بذور الحضارة إلى أركان العالم القصية، وأخصب غرينها القارات كلها، وأن الحضارات إنما كانت (فانية) حين كان لكل منها حقلها الخاص، وهو عموماً في حدود إمبراطورية، وكان حامل رسالتها الفكرية لا يتجاوز عبقرية جنس ما، فكان الأفول يحدث مع انهيار الامبراطورية وافتقار العبقرية العاجزة عن أن تتجدد بفعل عناصر أرضها وحدها، فإن البذور التي تعود لتلقى دائماً في الأرض نفسها تنتهي بالانقراض، وفقدان الحيوية. أما اليوم فإن البذرة قد انتشرت في كل مكان، ولقد يتضاءل جنين هنا ولكنه ينضج وينمو هناك، فنحن نصادف دائماً أشكالاً من المقاصة تحتفظ بالحضارة في مستواها وفي حيويتها، حائلة بينها وبين الأفول وتلك هي نتيجة توحيد المشكلة الإنسانية. ولقد حققت العبقرية الغربية هذا التوحيد حين أوصلت مقدرة الإنسان إلى المستوى العالمي، وهو يتجلى في حياة كل شعب وفي تشكيلاته

الصفحة 265