كتاب سوس العالمة

ذلك ما يأخذونه عند كل قضية يفصلونَها؛ لأن أستاذ المدرسة بِمَنْزلة القاضي الرسمي للقبيلة، يقضي بالتحكيم بين الناس -فِي الْجِبَال التي لا قضاء رَسْميّا فيها- فقلما يتجاوز إلى غيره، إلا إذا كان مغمورا بأستاذ آخر أعلى منه شأنا، وأكبر منه سنّا، وأبسط جاها، فبذلك تنمو الثروة للأساتذة بسرعة، ويظهر عليهم رونق الغنى وأبَّهة السيد المرموق الذي يَجر ذيولا يغبطه عليها العامة الأميون، وكيف لا يستغنون بذلك، مع أن أجرة المشارطات مع ما يأتي وراء النوازل ليست بقليلة إذ ذاك، زيادة على ما يَجمع في هري المدرسة من الأعشار، ومما عسى أن يكون لَها من الأحباس، فإن إدارة ذلك غالبا في يد الأستاذ ثُم لا مراقبة عليه إلا من بعيد، وأعظم دليل على أن هذا كله مصدر عظيم للتمول المعتاد مثله في سوس، هو ما أدركناه وعرفناه بالمشاهدة، من أن غالب العلماء يَمتازون باكتناز الأموال، وبكثرة الوفر، على حين أن أمثالهم في مثل بيئتهم لا يزالون يتطلبون الكفاف ثُمَّ لا يَجدونه، حتى أن من لَم يتمول من العلماء لا بد أن يتعالى مركزه على أقرانه وجيرانه ممن لا يتصفونَ بوصفه، وقد غلب على الناس هناك أن ظنوا أن للعالم حقّا بلا ريب رزقين، وأن لغيره رزقا واحدا، يعتقدون ذلك اعتقادا، والسبب العقول هو ما ذكرناه من استغنائهم بالمشارطة، وبِما يتعاطونه من الفلاحة التي تتسع بِجاههم العلمي؛ لأن الناس يَخدمونَ لأجل العلم، ثُمَّ يضمون إلى ذلك أجرة القضايا التي يفصلونَها، وغالب الأساتذة يستحلون ما يأخذونه مِمَّن يَحكمون لَهم في الدعاوي، بِحجة أن للقضاة والعلماء الذين قد كرسوا حياتَهم في نفع المجتمع من هذه الناحية حقّا على المجتمع. فإن لَم يكن من بيت المال؛ ففي أموال من يشتغلون على حسابِهم في تصفية دعاويهم، أو قسم تركاتهم، أو تَحرير الأحكام بنصوصها لَهم، يأخذون منهم بالمعروف، وبقدر المال المشغول فيه، ثم بِحسب ما يتراضى الأستاذ والمحكوم له وراء ذلك كله، وقد يتجاوز بعضهم ويركب الشطط، ولكن الغالب يراعي خالقه، فيحفظ مروءته، تَمالأت بِحل ذلك- ما دام بالمعروف، وبرضى المحكوم له بالحق- غالب فتاويهم ونصوصهم، وصار ذلك معهودا، يدخل عليه أصحاب الدعاوى، يوم يَحكمون أستاذا في قضيتهم أو يقسمون أمامه ميراثهم، وقد رسخ في أذهان العامة حتى صار دينا معتقدا، وعادة مُحكمة: إن الخصومات لا يفصلها إلا الفقهاء، وويل لِمن تصدى لفصلها من العوام المستبدين على القبائل، وقليل ما هم، على أنه لا بد لَهم من الاتكاء على رأي فقيه كيفما كان الحال. وقصارى الرؤساء في الكثير الشائع أن يقفوا موقف المنفذين لِما يحكم به العلماء، وهذا عم كل القبائل السوسية، ولا نستثني منها واحدة، إلا ما

الصفحة 26