كتاب مكة والمدينة في الجاهلية وعهد الرسول صلى الله عليه وسلم

الخاتمة: فتح مكة وتوحيد الجزيرة العربية
عاد جيش المسلمين بعد موقعة مؤتة لا منتصرًا ولا منهزمًا، وترك انسحابه أثرًا مختلفًا عند المسلمين بالمدينة، وعند الروم، وعند قريش بمكة.
فأما أثره بالمدينة؛ فقد كان المسلمون يرجون أن يحقق الجيش نصرًا كالانتصارات التي حققها من قبل، وساءهم أن ينسحب من أمام الروم دون أن يلحق بهم هزيمة، ولم يشفع لرجال الجيش عندهم أن كان العدو أضعافهم كثرة وسلاحًا، واتهموهم بالفرار في سبيل الله1 وبالغ شباب المسلمين المتحمِّس في هذا الاتهام حتى أرهقوا كبار رجال الجيش حتى ليلزم أحدهم بيته؛ كي لا يؤذيه صبيان المسلمين وشبابهم بتهمة الفرار، لكن النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو القائد البصير كان يدرك أن الانسحاب السليم أمام العدو المتفوق نصرٌ لا يقل قيمة عن دحر العدو في ميدان القتال، ولعله قُدِّر لخالد بن الوليد ضبطه نفسه وتغليبه الحكمة والحذر على الاندفاع والمغامرة في قتال قد يهلك الجيش ويؤدي إلى كارثة شديدة الأثر على موقف المسلمين، ولذلك رد على اتهام المسلمين بقوله: "بل هم الكرار إن شاء الله"2. ثم تلافى الموقف -كما ذكرنا من قبل- بما حفظ على المسلمين هيبتهم في الجبهة الشمالية وثبت سلطانهم.
وأما أثر الانسحاب عند الروم، فرحوا بانسحاب المسلمين وحمدوا الله أن لم يطل القتال بينهم، مع أن جيش الروم كان أضعاف جيش المسلمين، وسواء أكان فرح الروم راجعًا إلى ما أبداه خالد من الاستماتة في الدفاع والقوة في الهجوم، أم كان راجعًا إلى مهارته في توزيع جنوده وإيهام الروم بأن مددًا جاءه من المدينة، سواء أكان هذا أم ذاك فإن القبائل العربية المتاخمة للشام نظرت إلى فعال المسلمين بإعجاب شديد. حتى لقد أعلن أحد زعماء القبائل وهو فروة بن عرم الجذامي3 -وكان قائدًا من جيش الروم- إسلامه فقبض عليه بتهمة الخيانة، وحوكم، ولم يقبل عند محاكمته أن يرجع عن إسلامه، فأعدم وكان لهذا أثره في ازدياد انتشار الإسلام بين قبائل نجد المتاخمة للعراق والشام، فدخل في الإسلام ألوف من سليم وأشجع وغطفان وعبس
__________
1 ابن كثير 4/ 252. ابن هشام 3/ 439.
2 ابن كثير 4/ 203. ابن هشام 3/ 438.
3 ابن هشام 4/ 261، 262.

الصفحة 409