كتاب مكة والمدينة في الجاهلية وعهد الرسول صلى الله عليه وسلم

الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة] .
أعلن البيان أن الله بريء من المشركين، وأنه لا عهود بينهم وبين الدولة الإسلامية وأن الذين سبقت لهم عهود محدودة بأجل معلوم؛ فلم ينقصوها شيئًا ولم يعينوا على المسلمين أحدًا، توفى إليهم عهودهم إلى مدتهم ثم لا تتجدد، ثم أجل المشركين فرصة أربعة أشهر ليفكروا في وضعهم، فإما أن يعلنوا إسلامهم وينضموا للدولة الجديدة، وإما يعتبروا خارجين عليها متمردين على نظامها.
ووجود فئة لا تدين بمبادئ الدولة الإسلامية ولا تخضع لقوانينها -أمر بالغ الخطورة في كيان الدولة الداخلي، وكان لا بد أن يخضع هؤلاء الناس لنظام الدولة أو يحاربوا بمعنى أن يوضعوا في حكم الأعداء، ولكنهم أعداء داخليون يترتب على عداوتهم خطر كبير على كيان الدولة، ومن هنا لم يقبل الإسلام منهم إلا الدخول فيه والخضوع له، وليس للمشركين ديانة تحترم ولا مثل تفرض هذا الاحترام كأصحاب الديانات السماوية الأخرى، فالإسلام قد اعترف بالديانات السماوية واعتبر الدين وحدة واحدة، وأن رسالة الإسلام إنما جاءت لتأكيد هذه الوحدة وتطهيرها مما علق بها، وتأكيد وحدانية الله التي جاءت بها، لذلك اعتبر أهل الكتاب داخلين في وحدة الدولة إذا ما أعلنوا خضوعهم لها ووفوا بالتزاماتهم نحوها، وكان على هذه الفئة القليلة من المشركين وأهل الكتاب أن تحدد موقفها؛ فإما إسلام وخضوع للدولة وإما تعرض للحرب الشاملة.
ثم أعلن البيان أن مكة بيتها وحرمها إسلاميًّا خالصًا لا يجوز أن يدخله مشرك، وأن الحج أصبح حجًّا إسلاميًّا بعد أن برئت الكعبة من الأصنام؛ ولذلك فيجب ألا يحج مشرك ولا يقرب المسجد الحرام، وإذا كانت الدولة قد حرصت على وحدتها بإعلان براءتها من المشركين، فهي كذلك لم تعد في حاجة إلى الذين دخلوا فيها من قبل بمظهرهم دون قلوبهم وهم الذين عرفوا بالمنافقين، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- مضطرًا إلى مداراتهم حرصًا على الترابط الداخلي في دولته الناشئة؛ لأن سلطان العصبية كان قويًّا، فلو أنه قتلهم أو عاقبهم لربما جر ذلك إلى انتصار عشائرهم لهم، وبذلك يحدث تخلخل في صفوف الدولة، أما وقد رسخت أقدام الدولة واستقرت المبادئ في نفوس المسلمين وأصبحت بسلطانها أقوى من العصبية، فلم تعد هناك ضرورة للمداراة؛

الصفحة 421