كتاب مكة والمدينة في الجاهلية وعهد الرسول صلى الله عليه وسلم

ولذلك استمر البيان بعد ذلك يفضح المنافقين ويندد بهم تنديدًا شديدًا، وينذرهم بالعقاب الشديد في الدنيا والآخرة، ويحذر المسلمين من مصانعتهم وودهم، ويعتبرهم عنصرًا ضارًّا في الدولة مفسدًا فيها، يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف، وإذا كانوا في مظهرهم يبدون من المسلمين؛ لكنهم في حقيقتهم ليسوا منهم، وحتى لو أكدوا هذا وحلفوا عليه فإنما ذلك يكون منهم فرقًا حتى إذا ما وجدوا فرصة انتقضوا وكانوا عونًا على الدولة لا عونًا لها؛ ولذلك أنذرهم بأنهم إن أرادوا أن يكونوا مع المسلمين في توادهم وتراحمهم فعليهم أن يطهروا أنفسهم من النفاق وهو الكفر الباطن1.
والبيان في هذا الشأن يشرك الشعب في تصفية المجتمع، فإن الدولة لا تستطيع بأجهزتها مهما بلغت من الدقة أن تكشف عن خفايا نفوس الناس وأن تعرفهم معرفة مباشرة، وإنما يعرف الأفراد بعضهم بعضًا بالمخالطة والمكاشفة، والمجتمع السليم هو الذي يوجد فيه أفراد يشاركون الدولة مسئوليتها في تطهير المجتمع من الفئات الضارة المنحرفة المتغلغة فيه؛ ولذلك استعدى البيان المسلمين المؤمنين على هذه الفئة المنافقة؛ ليشعرها بالعزل الاجتماعي حتى تندرج بكليتها في النظام الجديد، أو تحس بوحدتها وانعزالها.
وقد آتى هذا البيان ثمرته فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد حج في العام العاشر حِجَّتَه الأخيرة. وهي الحجة التي حجها على النظام الكامل، وحج معه فيها حوالي مائة ألف حاج من العرب2 لم يكن من بينهم مشرك واحد. ومعنى هذا أن البيان أحدث تأثيره المطلوب.
وفي هذه الفترة التي تقع بين إعلان براءة ووفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- طبق الرسول -صلى الله عليه وسلم قانون براءة في حذر شديد وكياسة سياسية بارعة، وتجنب الاصطدام بالقبائل وإلا حرج كبرياءها وأثار عصبيتها؛ ولذلك كان يكتفي من وفودها بإعلان إسلامهم وإعلان انضمامهم إلى حكومته، ويرسل معهم عند عودتهم معلمين يعلمونهم الإسلام في بلادهم، وهؤلاء المعلمون هم أول صنف من الدعاة وأول صنف من الولاة والعمال في الدولة الإسلامية، وعلى أيديهم دخلت القبائل في الإسلام وجمعت الصدقات من كافة القبائل ووزعت على الفقراء توزيعًا محليًّا ولم يرسل إلى يثرب إلا الفائض3.
__________
1 انظر سورة التوبة 42- 110.
2 إمتاع 1/ 512.
3 ابن هشام 4/ 271.

الصفحة 422