كتاب مكة والمدينة في الجاهلية وعهد الرسول صلى الله عليه وسلم

الكثيرين منهم يتحكمون تحكمًا في الآراء والنتائج، ويقعون في أوهام وأغلاط خطيرة، إما بسبب تعظيم خبر أو رواية قد لا تكون صحيحة في أصلها، أو تكون قد فهمت على غير وجهها الصحيح، أو رجحت دون مبرر صحيح للترجيح. وإما بسبب عدم القدرة على فهم روح اللغة العربية وأسرارها البلاغية. كما أن بعضهم في كثير من الأحيان يفترضون افتراضات تجعلهم يقيسون مع الفارق، ويسوغون ما لا يمكن تسويغه،؛ بسب عدم قدرتهم على فهم البيئة العربية فهمًا صحيحًا. فوق أنهم استندوا أصلًا إلى المصادر العربية القديمة وفيها من المآخذ ما أشرنا إليه، ولم تكن لهم القدرة اللغوية على تمحيص ما بها تمحيصًا صحيحًا. كما أن بعضهم قد كتب في تاريخ الإسلام لغرض معين، فكتب ما كتب بدافع الهوى، وأحيانًا بدافع الحقد. فلجئوا إلى كل شاردة من الروايات مهما كانت ضعيفة أو تافهة في سبيل تثبيت نظرية خاصة يريدون الإدلاء بها؛ فتورطوا في بحوثهم، وخرجوا بها عن جادة العلم والبحث والأمانة.
لكل ما سبق كان أمرًا ضروريًّا أن يقوم أحد الباحثين بدراسة علمية لهذه الفترة، وبخاصة تاريخ المدينتين الحجازيتين -مكة والمدينة- في العصر الجاهلي وعهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- حتى تسد هذه الثغرة الظاهرة في الدراسات العربية والإسلامية.
وإذا كنا نريد أن ندرس الحياة الجاهلية دراسة موثقة صحيحة؛ فعلينا أن ندرسها في نص لا سبيل إلى الشك في صحته، على أن يكون مرآة صادقة لهذا العصر، وليس هناك مصدر ثابت لا سبيل إلى الشك فيه غير القرآن الكريم، فضلًا عن أنه أصدق مرآة للعصر الجاهلي ولحياة الرسول -صلى الله عليه وسلم- والدعوة الإسلامية نفسها.
وحين نقول: إن القرآن مرآة الحياة الجاهلية فإنما ذلك لأنه ليس من اليسير أن نفهم أن القرآن نزل ليتلى على ناس لا يفهمونه ولا يقفون على أسراره ودقائقه؛ فإن الذين تليت عليهم آياته أعجبوا به أشد الإعجاب، ولا يكون ذلك إلا أن تكون بينهم وبينه صلة، هي هذه الصلة بين الأثر الفني البديع وبين الذين يعجبون به حين يسمعونه أو ينظرون إليه. كذلك فإن العرب قد آمن بعضهم بالقرآن وناهضه بعضهم الآخر، وجادل النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه وقاومه، ولا يكون ذلك إلا لأن الناس فهموا القرآن ووقفوا على أسراره، وإلا لما آمن به مَن آمن وجادل فيه وناهضه من جادل وقاوم، وليس من الممكن أن نصدق أن القرآن كان جديدًا كله على العرب، وإلا لما فهموه ولا وعوه، ولا آمن به بعضهم وناهضه وجادل فيه آخرون. إنما كان القرآن جديدًا حقًّا في أسلوبه، وفيما يدعو إليه، وفيما شرع للناس من دين وقانون.

الصفحة 6