كتاب مكة والمدينة في الجاهلية وعهد الرسول صلى الله عليه وسلم

وقد عرض القرآن للحياة العربية من جوانبها المختلفة: الدينية والعقلية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية.
فأما من الناحية الدينية، فقد رد القرآن على الوثنيين، ورد على اليهود، ورد على النصارى، وعلى الصابئة، والمجوس. وهو لم يرد على يهود فلسطين، ولا نصارى الروم، ولا مجوس الفرس، ولا صابئة الجزيرة وحدهم، وإنما رد على فرق من عرب الجزيرة العربية كانت تمثلهم وتدين بهذه الديانات والنحل كلها؛ فهو يبطل منها ما يبطل، ويؤيد منها ما يؤيد، وهو يلقى من المعارضة والتأييد بمقدار ما لهذه النحل والديانات من سلطان على نفوس الناس، وبمقدار ما لأصحابها من قيمة وخطر في الحياة السياسية والاجتماعية في بلاد العرب. ولا نجد هذا واضحًا في مصدر من مصادر البحث يمكن أن نرجع إليه غير القرآن الكريم. فالقرآن إذن أصدق تمثيلًا لحياة العرب الدينية من كل مصدر آخر، وهو إذ يصور لنا هذا الجانب من حياتهم إنما يصورهم أصحاب دين يجادلون عنه ويقاتلون في سبيله.
والقرآن لا يمثل الحياة الدينية وحدها؛ وإنما يمثل حياة عقلية قوية عند العرب، فهو يمثلهم ذوي قدرة على الجدل والخصام، ويشهد لهم في هذا بقوة الجدل والقدرة على الخصام والشدة في المحاورة، وهم لم يكونوا يجادلون في أمور بسيطة هينة من أمر الدين، وإنما كانوا يجادلون في مسائل عويصة معضلة أنفق الفلاسفة وينفقون فيها حياتهم دون أن يوفقوا لحلها: كانوا يجادلون في الخلق، والبعث والحساب، وفي إمكان اتصال الله تعالى بالناس، وفي الوحي والمعجزة وما إلى ذلك. والقرآن يصورهم أذكياء علماء، ولا يصفهم جهلاء ولا أغبياء، ولا يصفهم بالغلظة والخشونة كما يصفهم الواصفون.
ولا نقول هذا على العرب على الإطلاق، وإنما كان العرب كغيرهم من الأمم القديمة، منقسمين إلى طبقتين: طبقة المستنيرين الذين يمتازون بالجاه والمال والذكاء والعلم. وطبقة الذين لا يكادون يملكون حظًّا من هذا كله؛ وإنما كانوا تبعًا لسادتهم يسيرون حيث ساروا. وكذلك مثل القرآن العرب؛ فتحدث عن كبرائهم وما هم عليه من نعمة وما هم عليه من معرفة، كما تحدث عن جهالهم، وصور جفاء أعرابهم وغلظة أكبادهم وموت العاطفة عندهم.

الصفحة 7