كتاب مكة والمدينة في الجاهلية وعهد الرسول صلى الله عليه وسلم

والقرآن لا يمثل العرب أمة مدنية مستنيرة فحسب؛ بل ويمثلها أمة غير معتزلة لغيرها من الأمم، فهي ليست قابعة في صحاريها لا تعرف العالم ولا يعرفها العالم، وإنما كانت على صلة وثيقة بجيرانها من الأمم الأخرى، تشارك في نشاط العالم السياسي، وتهتم بسياسات الأمم الكبرى في ذلك الوقت من فرس وروم وأحباش، ولها مع هذه الأمم نشاط اقتصادي كبير؛ تحمل التجارة العالمية عبر صحرائها بين الشرق والغرب في رحلتي الشتاء والصيف. بل ويصورها القرآن عارفة بالبحر تتخذه طريقًا وتحصل منه على منافع كثيرة من الصيد والغوص، واحتفاء القرآن بالبحر وما يجري عليه من منشآت في البحر كالأعلام، ومَنُّهُ على العرب بالنعم التي يحصلون عليها من البحر كبير، يقطع بأن عرب الجزيرة العربية لم يكونوا يجهلون البحر، بل ولهم فيه نشاط ملحوظ وفائدة منه عظيمة.
فالعرب إذن لم يكونوا على غير دين، ولم يكونوا جهالًا ولا غلاظًا، ولم يكونوا في عزلة سياسية أو اقتصادية بالقياس إلى غيرهم من الأمم.
وكما عرض القرآن لحياة العرب الاقتصادية الخارجية، كذلك عرَض لحياتهم الداخلية. وقسمهم في هذه الناحية كذلك إلى: أغنياء مستأثرين بالثروة مسرفين في الربا، وفقراء معدمين ليس لهم من المال ما يقاومون به هؤلاء الأغنياء المرابين. وكما وقف القرآن يأخذ بيد الجهال ينير عقولهم ويرفع من كرامتهم، كذلك أخذ جانب الفقراء المستضعفين في صراحة وقوة وناضل عنهم وعن حقوقهم، وحارب المسرفين في ظلمهم. وسلك في ذلك مسالك مختلفة: من القوة والعنف حين حرم الربا وحمل على المرابين وأنذرهم بالحرب من الله ورسوله. ومن اللين والرفق حين أمر بالبر وحبب في الصداقة. ومن المزاوجة بين اللين والشدة حين فرض الزكاة وجعل للفقراء حقًّا في مال الأغنياء. كما أن القرآن عرض لتنظيم المعاملات ليحفظ الحقوق وليقيم العدالة بين المتعاملين.
وبالجملة فقد عرض القرآن لكل الحياة العربية من كافة نواحيها، لذلك كان مرآة صادقة للحياة العربية في الجاهلية.1.
__________
1 انظر طه حسين: في الأدب الجاهلي "القرآن مرآة الحياة الجاهلية" ص 70-80 طبع المعارف.

الصفحة 8