كتاب السيرة النبوية الصحيحة محاولة لتطبيق قواعد المحدثين في نقد روايات السيرة النبوية (اسم الجزء: 1)
وهذا القياس الفاسد من قريش، من تشبيه الأنبياء المكرمين بالأصنام المعبودة غير العاقلة اقتضى الرد عليه فقال الله تعالى مبينًا عبودية عيسى لله: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} وإنه لم يدعُ إلى عبادة نفسه بل دعا إلى عبادة الله وحده: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ} وسمَّى القرآن احتجاج قريش بالجدل {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا}. وهو المِراء الباطل حيث كانوا عربًا فصحاء لا يخفى عليهم أن الآية {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} (¬1) هي خطاب لقريش، وهم يعبدون أصنامًا لا تعقل، وليست خطابًا للنصارى، فلا يرد اعتراضهم على الآية أصلًا -وهي لما لا يعقل- بدعوى اشتمالها للمسيح (عليه السلام).
ومن المجادلات التي أثارها المشركون سؤالهم عن الروح قالت قريش لليهود: أعطونا شيئًا نسأل عنه هذا الرجل، فقالوا: سلوه عن الروح. فنزلت {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} (¬2) قالوا: نحن لم نؤتَ من العلم إلا قليلًا، وقد أوتينا التوراة ومن أوتيَ التوراة فقد أوتي خيرًا كثيرًا!! فنزلت {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} (¬3).
وسورة الإسراء كلها مكية (¬4)، ويحتمل إعادة نزولها عندما أثار اليهود الجدل حول الروح مرة أخرى في المدينة (¬5).
¬__________
(¬1) الزخرف 57 - 64 وتفسير ابن كثير 4/ 117 - 118 ط. خليل الميس.
(¬2) الآية من سورة الإسراء 85.
(¬3) الآية من سورة الكهف 109 والرواية في سنن الترمذي 5/ 304 وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه. ومسند أحمد 1/ 255 ومستدرك الحاكم 2/ 531 وصحح إسناده وأقره الذهبي وصححه أيضًا في السيرة النبوية 134 وصححه الحافظ ابن حجر على شرط مسلم في الفتح 8/ 401 وفي السند عكرمة أخرج له مسلم مقرونًا (تهذيب التهذيب 7/ 272).
(¬4) ابن كثير تفسير 3/ 60 وحكى الزركشي الاتفاق على ذلك (البرهان 1/ 30).
(¬5) صحيح البخاري (فتح 10/ 15، 8/ 401) وصحيح مسلم 4/ 2152 وسنن الترمذي 5/ 304. وهذا الجمع بين الروايات أولى من ترجيح نزول الآية في المدينة.