كتاب السيرة النبوية الصحيحة محاولة لتطبيق قواعد المحدثين في نقد روايات السيرة النبوية (اسم الجزء: 2)

شاهدُ عيانٍ هو زياد بن جزء الزُّبيدي، قال: "فجمعنا ما في أيدينا من السبايا، واجتمعت النصارى، فجعلنا نأتي بالرجل ممن في أيدينا، ثم نخيِّرهُ بين الإسلام والنصرانية، فإذا اختار الإسلام كبَّرنا تكبيرة هي أشد من تكبيرنا حين تفتح القرية. قال: ثم نحوزه إلينا. وإذا اختار النصرانية نخرت النصارى ثم حازوه إليهم، ووضعنا عليه الجزية، وجزعنا من ذلك جزعاً شديداً حتى كأنه رجل خرج منا إليهم.
قال: فكان ذلك الدأب حتى فرغنا منهم.
وقد أُتي فيمن أتينا به - بأبي مريم عبد الله بن عبد الرحمن، فوقفناه فعرضنا عليه الإسلام والنصرانية - وأبوه وأمه وأخوته في النصارى - فاختار الإسلام فحزناه إلينا، ووثب عليه أبوه وأمه وأخوته، يجاذبوننا حتى شقَّقوا عليه ثيابه، ثم هو اليوم عريفنا (¬1) ".
وهذه الحادثة تكشف عن مشاعر الصحابة، وتعلقهم بدينهم، ورغبتهم الصادقة في إسلام الناس، وإن سقطت الجزية عنهم، ثم هي تكشف عن جو الحرية الدينية، وعدم إجبار أحد على اعتناق الإسلام حتى مع القدرة عليهم.
ولم يكن طريق الإسلام في جيل الصحابة معبداً مفروشاً بالزهور، وخاصة في أولى مراحل الدعوة بل كان محفوفا بالأخطار، وكان الدخول فيه امتحانا شاقا لا تجتازه بنجاح إلا الهمم الشامخة والنفوس العالية، التي حازت الإيمان والتقوى والإخلاص والمجاهدة .. مرَّ رجل بالمقداد بن الأسود - رضي الله عنه - فقال: طوبى لهاتين العينين اللتين رأتا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله لوددنا أنا رأينا ما رأيت، وشهدنا ما شهدت!! فقال المقداد: ما يحمل أحدكم على أن يتمنَّى محضراً غيَّبه الله عز وجل عنه. لا يدري لو شهده كيف يكون فيه! والله لقد حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم أقوام - كبهم الله عز وجل على مناخرهم في جهنم - لم يجيبوه ولم يصدقوه! أولاً تحمدون الله إذ أخرجكم الله عز وجل لا تعرفون إلا ربكم مصدِّقين بما جاء
¬__________
(¬1) تاريخ الطبري 4/ 227.

الصفحة 671