كتاب السيرة النبوية الصحيحة محاولة لتطبيق قواعد المحدثين في نقد روايات السيرة النبوية (اسم الجزء: 2)

به نبيكم عليه السلام، وقد كُفيتُم البلاء بغيركم؟! والله لقد بُعث النبي صلى الله عليه وسلم على أشدِّ حال بعث عليه نبي من الأنبياء في فترة وجاهلية، ما يرون ديناً أفضل من عبادة الأوثان، فجاء بفرقان فرَّق به بين الحق والباطل، وفرَّق بين الوالد وولده، حتى إن الرجل ليرى والده أو ولده أو خاله كافراً. وقد فتح الله تعالى قفل قلبه للإيمان، ليعلم أنه قد هلك من دخل النار فلا تقر عينه وهو يعلم أن حميمه - أي أقربائه - في النار، وإنها للتي قال الله عز وجل: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ}.
وكان معظم الصحابة من الفقراء، وكانت الدولة الناشئة في المدينة المنورة لا تملك الأموال، فلا مطمع لمن يدخل في دين الله في نيل المال أو الجاه أو أي من أعراض الدنيا، ومن طريق الروايات التي تصور فقرهم وحالهم ما أخرجه البخاري في صحيحه عن الصحابي الجليل سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال: كانت منا امرأة تجعل في مزرعة لها سِلْقًا، فكانت إذا كان يوم الجمع تنزع أصول السلق فتجعله في قِدْر، ثم تجعل قبضة من شعير تطحنه، فتكون أصول السلق عَرْقَة - أي عظمه ولحمه -.
قال سهل: كنا ننصرف إليها من صلاة الجمعة فنسلم عليها، فتقرب ذلك الطعام إلينا، فكنا نتمنَّى يوم الجمعة لطعامها ذلك - وفي رواية: ليس فيها شحم ولا وَدَك، وكنا نفرح بيوم الجمعة" (¬1).
وقد تحمَّل الصحابة الكرام من الجوع والعطش والحرِّ والبرد والأذى، فصبروا على الامتحان، وآثروا العقيدة على نعيم الدنيا، فاستحقوا المكانة التي وصلوا إليها حيث خلدهم كتاب الله تعالى بما وصفهم به من عاطر الثناء، وحفظت لهم الأمة الإسلامية قدرهم على مدى الزمان.
لقد كان الصحابة يلتزمون بالبيعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم للخلفاء الراشدين من بعده، وكان للبيعة قيمة عالية فهي التزام حرُّ وتعاقدٌ بين الطرفين، وقد دلَّلوا
¬__________
(¬1) المنذري: الترغيب والترهيب 5/ 173.

الصفحة 672