كتاب السيرة النبوية الصحيحة محاولة لتطبيق قواعد المحدثين في نقد روايات السيرة النبوية (اسم الجزء: 2)

دائماً على صدق التزامهم فلبَّوا داعي الجهاد وخاضوا غمار المعارك في أماكن نائية عن ديارهم، ودُفِنَ كثير منهم في أطراف الأرض ما بين كابل والقسطنطينية والقيروان وما عرفوا القعود عن الجهاد والحفاظ على الكرامة والذود عن العقيدة.
وبيعة الناس للخليفة تدل على أن الأمة هي مصدر السلطة، وأن السلطة ليست ثيوقراطية، وليست ممنوحة من الله لأحد من البشر بل هي تعاقد بين المسلمين وحاكمهم على أن يطيعوه في العسر واليسر والمنشط والمكره، مقابل حفاظه على دين الله، وإنفاذه حكم الله، وحفظه للأمن، وتحقيقه لمصالح الرعية، فلا كهنوت في الإسلام ولا تفويض إليهاً، بل بيعة حرة يدرك الطرفان، الأمة والحاكم عمق معناها ومدى التزاماتها؛ ذلك العمق والالتزام النابعان من معنى الآية الكريمة {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} (¬1).
وما أدق تعبير عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حين قال له عمير بن عطية الليثي - رضي الله عنه -: يا أمير المؤمنين ارفع يدك - رفعها الله - أبايعْكَ على سُنَّة الله ورسوله. فرفع عمر يده وضحك وقال: هي لنا عليكم ولكم علينا. فالتزام البيعة إذاً يشمل الراعي والرعية.
لقد خلد القرآن الكريم مواقف المسلمين الأوائل من المهاجرين والأنصار في آيات كثيرة. قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (¬2).
والسابقون الأولون هم الذين صلَّوا إلى بيت المقدس أولاً ثم صلوا إلى الكعبة بعد تحويل القبلة إليها، وهذا الرأي قال به سعيد بن المسيب، ومحمد ابن سيرين، وهما من كبار التابعين. وتحويل القبلة إلى الكعبة كان في السنة الثانية من الهجرة بعد ستةَ عشرَ شهراً من قدومه صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فمن كان على الإسلام قبل هذا التاريخ فهو من السابقين الأولين.
¬__________
(¬1) الفتح: 10.
(¬2) التوبة: 100.

الصفحة 673