كتاب السيرة النبوية الصحيحة محاولة لتطبيق قواعد المحدثين في نقد روايات السيرة النبوية (اسم الجزء: 2)

والتوجيه، وهي التفاتة تدلُّ على عبقرية أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه -.
روى البخاري عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: "خرجت مع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إلى السوق، فلحقت عمر امرأة شابة فقالت: يا أمير المؤمنين، هلك زوجي وترك صبية صغاراً، والله ما ينضجون كُراعًا، ولا لهم زرع ولا ضرع، وخشيت أن تأكلهم الضبع - أي السنة المجدبة - وأنا بنت خفاف بن إيماء الغفاري، وقد شهد أبي الحديبية مع النبي صلى الله عليه وسلم.
فوقف معها عمر ولم يمض، ثم قال: مرحباً بنسب قريب، ثم انصرف إلى بعير ظهير كان مربوطا في الدار، فحمل عليه غرارتين ملأهما طعاما، وحمل بينهما نفقة وثيابا، ثم ناولها بخطامه ثم قال: اقتاديه، فلن يفنى حتى يأتيكم الله بخير.
فقال رجل: يا أمير المؤمنين أكثرت لها.
فقال عمر: ثكلتك أمُّك، والله إني لأرى أبا هذه وأخاها قد حاصرا حصنا زمناً فافتتحناه، ثم أصبحنا نستفييء سهماننا فيه".
وقد تكرر ذلك من عمر - رضي الله عنه -، فقد قسَّم مروطا (أكسية من صوف أو خز) بين نساء أهل المدينة، فبقي منها مرط جيِّد، فقال بعض من حضر: يا أمير المؤمنين أعط هذا ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي عندك - يريدون أم كلثوم بنت علي - رضي الله عنه - وكانت زوجة لعمر بن الخطاب.
فقال عمر: أم سُليط أحق به، فإنها ممن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت تحمل للناس القرب يوم أحد (¬1).
وهكذا فإن تكريم الأبطال الذين يقدمون خدمات عظيمة للمجتمع انسحب على أبنائهم، وبذلك يعرف الناس جميعاً أن تضحياتهم لا تضيع في الدنيا ولا في الآخرة {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى}.
¬__________
(¬1) ابن الجوزي: مناقب عمر 57.

الصفحة 675