كتاب الدر الثمين والمورد المعين

لو خالفني في لحظة من خطراته لم يفلح أبداً، فإذا جوهدت النفس بهذه المجاهدات وقوتلت بهذه المقاتلات رجعت عن جميع مألوفاتها الدينية وعاداتها الردية وزال عنها النفور والاستكبار ودانت لمولاها بالعبودية والافتقار وتركت أعمالها وصفت أحوالها وهذه هي خاصيتها التي خلقت لأجلها ومزيتها التي شرفت من قبلها وإنما ألفت سوى هذا لمرض أصابها من الركون لهذا العالم الأدنى والأنس بالشهوات التي تزول وتفنى حتى امتنع عليها ما خلقت لأجله من موجب سعادتها وغاية شرفها وإفادتها فلما تعالجت بما ذكرناه عادت إلى الصحة وإلى طبعها الأصلي فألفت العبودية والتزمتها وصارت بذلك مطمئنة صالحة لأن يقال لها {يا أيتها النفس المطمئنة إرجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي} ثم قال وعلامة وصول المريد إلى هذا المقام الحميد أن تستوي عنده الأحوال ولا يتأثر باطنه بما يواجه به من قبيح الأفعال والأقوال لاستغراق قلبه في مطالعة حضرة الكمال قال أبو عثمان الخيري رحمه الله لا يكمل الرجل حتى يستوي في قلبه أربعة أشياء في المنع والعطاء والعز والذل قال محمد بن خفيف رضي الله عنه قدم علينا بعض أصحابنا فاعتل وكان به علة البطن فكنت أخدمه وآخذ منه الطست طول الليل فغفوت مرة فقال لي لعنك الله فقيل لي كيف وجدت نفسك عند قوله لعنك الله قال كقوله رحمك الله!؟ وحكي عن ابراهيم بن أدهم رضي الله عنه أنه قال ما سررت في الاسلام إلا مرات معدودات كنت في مركب يوماً وكان رجل يحكي الحكايات المضحكة فضحك منه الناس وكان يقول رأيت وقتاً في معركة الترك علجا ثم كان يأخذ بلحيتي ويمر يده على حلقي هكذا حين حكايته والناس يضحكون منه ولم يكن في ذلك المركب عنده أحد أصغر مني ولا أحقر فسررت بذلك، ويوماً آخر كنت جالساً فجاء إنسان وبال علي وكان حاتم الأصم رضي الله عنه رجل يسيء القول فيه وفي أصحابه ويواجههم كل يوم بالقبيح فوقع عليه جذع من السقف في بعض الأيام في حال مواجهة القوم بالسب والشتم فمات فقال الحمد لله فقيل له هذا خلاف ما تأمرنا به فقال ما حمدت الله شماتة ببلوته بل حمدت الله إذ لم أسر بنكبته، هذا وأشباهه معلوم من أحوالهم ضرورة أبلغ من هذا كله محبة الموت وكراهية البقاء في الدنيا شوقاً إلى لقاء المولى قال بعضهم حقيقة زوال الهوى من القلب حب لقاء الله تعالى في كل نفس من غير اختيار حالة يكون المرء عليها فإذا وجد المريد هذه العلامات في نفسه فقد خرج من عالم جنسه ووصل إلى حضرة قدسه وكان كما قال الشاعر
لك الدهر طوعاً والأنام عبيد
فعش كل يوم من زمانك عيد

الصفحة 585