كتاب الدر الثمين والمورد المعين

النفس في الأنفاس والحركات ومحاسبتها في الخطرات واللحظات فمن حاسب نفسه قبل أن يحاسب خف في القيامة حسابه وحضر عند السؤال جوابه ومن لم يحاسب نفسه دامت حسراته وطالت في عرصات القيامة وقفاته فلما انكشف لهم ذلك علموا أنه لا ينجيهم منه إلا طاعة الله تعالى وقد أمرهم بالصبر والمرابطة فقال تعالى {يا أيها الذين آكنوا اصبروا وصابروا ورابطوا فرابطوا أنفسهم أولا} بالمشارطة ثم بالمراقبة ثم بالمحاسبة ثم بالمجاهدة ثم بالمعاتبة فكانت لهم في المرابطة ستة مقامات ولا بد من شرحها وبيان حقيقتها وفضيلتها وتفصيل الأعمال فيها وأصلها المحاسبة ولكن كل حساب فبعد مشارطة ومراقبة ويتبعه عند الخسران معاتبة ومعاقبة فلنذكر شروح هذه المقامات اعلم أن مطلب المتعاملين في التجارات عند المحاسبة سلامة رأس المال ثم الربح وكما أن التاجر يستعين بشريكه فيسلم المال إليه حتى يتجر فيه ثم يحاسبه فكذلك العقل
هو التاجر في طريق الآخرة ورأس ماله العمر وإنما مطلبه وربحه تزكية النفس إذ به فلاحها، ففلاحها بالأعمال الصالحات، والعقل يستعين بالنفس في هذه التجارة إذ يستعملها ويستخدمها فيما يزكيها كما يستعين التاجر بشريكه وغلامه الذي يتجر في ماله، وكما أن الشريك يصير خصماً منازعاً يجاذبه في الربح فيحتاج إلى أن يشارطه أولاً ويراقب ثانياً ويحاسبه ثالثاً ويعاتبه أو يعاقبه رابعاً فكذلك العقل يحتاج إلى مشارطة النفس أولاً فيوظف عليها الوظائف ويشترط عليها الشروط ويرشدها إلى طريق الفلاح ويجزم عليها الأمر بسلوك تلك الطرق ثم لا يغفل عن مراقبتها لحظة فإنه لو أهملها لم ير منها إلا الخيانة وتضييع رأس المال كالعبد الخائن إذا خلا له الجو وانفرد بالمال ثم بعد الفرغ ينبغي أن يحاسبها ويطالبها بالوفاء بما شرط عليها فإن هذه تجارة ربحها الفردوس الأعلى فتدقيق الحساب في هذا مع النفس أهم كثيراً من تدقيقه في أرباح الدنيا الحقيرة الفانية فحتم على كل مؤمن أن لا يغفل من محاسبة نفسه والتضييق عليها في حركاتها وسكناتها وخطراتها فان كل نفس من أنفاس العمر جوهرة نفيسة لا عوض لها فاذا أصبح وفرغ من فريضة الصبح فينبغي له أن يفرغ قلبه ساعة لمشارطة النفس ويقول لها مالي بضاعة إلا العمر فان فنى فنى رأس المال ووقع اليأس من التجارة وطلب الربح وهذا اليوم الجديد قد أمهلني الله فيه فإياك إياك أن تضيعيه ثم يستأنف لها وصية أخرى في أعضائه السبعة العين والأذن واللسان والبطن والفرج واليد والرجل فإذا وصى نفسه وشرط عليها ما ذكرناه فلا يبقى إلا المراقبة لها عند الخوض في الأعمال فانها ان تركت طغت وفسدت وكما أن العبد يكون له وقت أول النهار يشارط نفسه

الصفحة 587