كتاب الدر الثمين والمورد المعين

اليقين التي من جملتها الخوف والرجاء فقال الإمام أبو حامد الغزالي في الإحياء في بيان حقيقة الرجاء والخوف ما نصه بيانه أن كل ما يلاقيه من مكروه ومحبوب ينقسم إلى موجود في الحال وإلى موجود فيما مضى وإلى منتظر في الاستقبال إذا خطر بذلك موجود فيما مضى سمي ذكراً وتذكراً وإن كان ما خطر بقلبك موجوداً في الحال سمي وجداً وذوقاً وإدراكاً وإنما سمي وجداناً لأنها حالة تجدها من نفسك وإن كان خطر ببالك وجود شيء في الاستقبال وغلب ذلك على قلبك سمي انتظاراً وتوقعاً فإن كان المنتظر مكروهاً حصل منه ألم في القلب يسمى خوفاً وإشفاقاً وإن كان محبوباً حصل في انتظاره وتعلق القلب به واحضار وجوده بالبال لذة في القلب وارتياح يسمى ذلك الارتياح رجاء فالرجاء هو ارتياح القلب لانتظار ما هو محبوب عنده ولكن ذلك المحبوب المتوقع لا بد أن يكون له سبب فإن كان انتظاره لأجل حضور أكثر أسبابه فاسم الرجاء عليه صادق وإن كان ذلك انتظاراً مع انخرام أسبابه واضطرابها فاسم الغرور والحمق أصدق عليه من اسم الرجاء وإن كان لم تكن الأسباب معلومة الوجود ولا معلومة الانتفاع فاسم التمني أصدق على انتظاره لأنه انتظار من غير سبب وعلى كل حال فلا يطلق اسم الرجاء والخوف إلا على ما تتردد فيه أما ما يقطع به فلا وقد علم أرباب القلوب أن الدنيا مزرعة الآخرة والقلب كالأرض والإيمان كالبذر فيه والطاعة جارية مجرى تقليب الأرض وتطهيرها ومجرى حفر الأنهار وسقاية الماء إليها والقلب المستهتر بالدنيا المستغرق كالأرض السبخة التي لا ينمو فيها البذر ويوم القيامة يوم الحصاد ولا يحصد أحد إلا ما زرع ولا ينمو زرع إلا من بذر الإيمان وقلما ينفع
الإيمان مع خبث القلب وسوء أخلاقه كما لا ينمو بذر في أرض سبخة فينبغي أن يقاس رجاء العبد المغفرة برجاء صاحب الزرع فكل من طلب أرضاً طيبة وألقى فيها بذراً جيداً غير عفن ولا مسوس ثم أمده بما يحتاج إليه وهو سقاية الماء في أوقاته ثم طهره ونقاه من الشوك والحشيش وكل ما يمنع نبات البذر أو يفسده ثم جلس منتظراً من فضل الله تعالى دفع الصواعق والآفات المفسدة إلى أن يتم الزرع ويبلغ غايته سمي انتظاره رجاءً وإن بث البذر في أرض صلبة سبخة مرتفعة لا ينصب إليها ماء ولم يشتغل بتعهد البذر أصلاً ثم انتظر حصاد الزرع منه سمي انتظاره حمقاً وغروراً لا رجاء وإن بث البذر في أرض طيبة ولكن لا ماء لها وأخذ ينتطر مياه الأمطار حيث لا تغلب الأمطار ولا تمتنع أيضاً سمي انتظاره تمنياً لا رجاءً فإذا اسم الرجاء إنما يصدق على انتظار محبوب تمهدت جميع أسبابه الداخلة تحت اختيار العبد ولم يبق إلا ما ليس يدخل تحت اختياره وهو فضل الله سبحانه بصرف القواطع والمفسدات فالعبد إذا بث بذر الإيمان وسقاه بماء الطاعات وطهر القلب عن شوك الأخلاق الرديئة وانتظر من فضل الله تعالى تثبيته عليه إلى الموت وحسن الخاتمة المفضية إلى المغفرة كان انتظاره رجاء حقيقياً محموداً في نفسه باعثاً له على

الصفحة 592