كتاب الدر الثمين والمورد المعين

وقته مشاهداً لجمال الحق على الدوام ولم يبق له التفات إلى المستقبل لم يكن له خوف ولا رجاء بل صار حاله أعلى من الخوف والرجاء فإنهما زمامان يمنعان النفس عن الخروج إلى رعونتها وإلى هذا أشار الواسطي حيث قال: الخوف حجاب بين العبد وبين الله تعالى، وقال أيضاً إذا ظهر الحق على السرائر لم يبق فيها فضلة لرجاء ولا خوف، ثم قال اعلم أن فضيلة الشيء بقدر غنائه في الافضاء إلى سعادته لقاء الله سبحانه إذ لا مقصود سوى السعادة ولا سعادة للعبد إلا في لقاء مولاه والقرب منه فكل ما أعان عليه فله فضيلة وفضيلته بقدر إعانته وقد ظهر أنه لا وصول إلى سعادة لقاء الله تعالى في الآخرة إلا بتحصيل محبته والأنس به في الدنيا ولا تحصل المحبة إلا بالمعرفة ولا تحصل المعرفة إلا بدوام الفكر ولا يحصل الأنس إلا بالمحبة ودوام الذكر ولا تتيسر المواظبة على الذكر والفكر إلا بانقلاع حب الدنيا من القلب ولا ينقلع ذلك إلا بترك لذات الدنيا وشهواتها ولا يمكن ترك المشتهيات إلا بقمع الشهوات ولا تنقمع الشهوات بشيء كما تنقمع بنار الخوف فالخوف هو النار المحرقة للشهوات فإذا فضيلته بقدر ما يحرق من الشهوات وبقدر ما يكف عن المعاصي ويحث على الطاعات ويختلف ذلك باختلاف درجات الخوف فكيف لا يكون الخوف ذا فضيلة وبه تحصل العفة والورع والتقوى والمجاهدة وهي الأعمال الفاضلة المحمودة التي يقرب بها إلى الله تعالى قال تعالى {هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون} وقال تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء} فوصفهم بالعلم لخشيتهم وقال {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} ووصى الله تعالى الأولين والآخرين بالتقوى فقال {ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله} وقال {وخافون إن كنتم مؤمنين} فأمر بالخوف وأوجبه وشرطه بالإيمان فلذلك لا يتصور أن ينفك مؤمن عن خوف وإن ضعف ويكون ضعف خوفه بحسب ضعف مرتبته وإيمانه وقال في فضيلة التقوى إذا جمع الله تعالى بين الأولين والآخرين لميقات يوم معلوم ناداهم بصوت يسمع أقصاهم كما يسمع أدناهم فيقول يا أيها الناس إني قد أنصت لكم منذ خلقتكم إلى يوم هذا فانصتوا إلي اليوم إنما هي أعمالكم ترد عليكم أيها الناس إني جعلت نسباً وجعلتم نسباً فوضعتم نسبي ورفعتم نسبكم قلت إن أكرمكم عند الله أتقاكم وأبيتم إلا أن تقولوا فلان ابن فلان وفلان أغنى من فلان فاليوم أضع نسبكم وأرفع نسبي أبن المتقون فينصب للقوم لواء

الصفحة 594