كتاب مرآة الزمان في تواريخ الأعيان (اسم الجزء: 10)
قد كُنْتُ أتمنَّى لقاءَك، فالحمدُ لله الَّذي أرانيك. فقال لها: وما الَّذي تلتمسينه منّي؟ قالت: ألستَ القائل:
إذا ما أتَتْنا خُلَّةٌ كي تُزيلَها ... أبَينا وقلنا الحاجِبيَّةُ أوَّلُ (¬1)
سنُوليكِ عُرْفًا (¬2) إنْ أرَدْتِ وصالنَا ... ونحن لتلك الحاجِبيَّةِ أوْصَلُ
قال: بلى. قالت: فهلَّا قلتَ كما قال سيّدُك جميل:
يا رُبَّ عارضةٍ علينا وَصْلَها ... بالجِدِّ تَخْلِطُهُ بقولِ الهازلِ
فأجَبْتُها بالقولِ بعد تأمُّلٍ ... حُبِّي بُثينةَ عن وصالكِ شاغلي
لو كان في قلبي كقَدْرِ قُلامةٍ ... فضلًا لغيركِ ما أتتكِ رسائلي
قال: فقلتُ: دعي هذا واسقيني ماءً. فقالت: لا والله، وإلَّا ثَكِلْتُ بُثينةَ، لا أسقيك ولو مِتَّ عَطَشًا، فركَضْتُ فرسي، ومَضيتُ أطلبُ الماء، فما وصلتُ إليه إلا بعد جهد كِدت أن أموتَ عَطَشًا (¬3).
قال يحيى الأمويّ: لَقِيَتْ امرأةٌ كُثَيِّرًا وكان دَمِيمًا ضئيلًا، فقالت: مَنْ أنت؟ قال: كُثَيِّر. قالت: تسمعُ بالمُعِيدِيِّ خيرٌ من أن تراه. فقال: مَهْ، فأنا الَّذي أقول:
فإنْ أكُ مَعْرُوقَ العِظامِ فإنِّني ... إذا ما وَزَنْتِ القومَ بالقومِ أَوْزِنُ
فقالت: كيف تكون بالقوم وازنًا وأنتَ لا تُعرفُ إلا بِعَزَّة؟ ! فقال: واللهِ لئن قلتِ ذلك، لقد رفع الله بها قَدْرِي، وزَيَّنَ بها شِعْري، وإنها لكما قلتُ:
وما روضةٌ بالحَزْنِ طَيبةُ الثَّرَى ... يَمُجُّ النَّدى جَثْحاثُها وعَرارُها (¬4)
بأطيبَ من أردانِ عَزَّةَ مَوْهِنًا ... وقد أُوقِدَتْ بالمَنْدَلِ الرَّطْبِ نارُها (¬5)
من الخَفِرات البيضِ لم تَلْقَ شَقْوةً ... وبالحَسَبِ المكنُونِ صافٍ نِجَارُها (¬6)
¬__________
(¬1) الخُلَّة يعني الخليلة. وقصد بالحاجبية: عزَّة.
(¬2) أي: معروفًا.
(¬3) تاريخ دمشق 59/ 316 - 317، والمنتظم 7/ 106 - 107.
(¬4) الحَزْن من الأرض: ما غلُظ، والجَثحاث والعَرار: نَبْتانِ طَيِّبا الرائحة.
(¬5) الأردان، جمع رَدْن، وهو القزّ أو الخزّ، والمَوْهن: نحوٌ من نصف الليل، أو بعد ساعة منه، والمَنْدَل: العود الطيب الرائحة.
(¬6) الخَفِرات جمع خَفِرة، وهي شديدة الحياء، والنِّجار: الأصل والحَسَب.