كتاب تفسير القرطبي = الجامع لأحكام القرآن (اسم الجزء: 10)

لِأَنَّهَا بُقْعَةٌ يُعْصَى اللَّهُ وَيُكْفَرُ بِهِ فِيهَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمَقْبَرَةُ. وَقَدْ وَرَدَتِ السُّنَّةُ بِاتِّخَاذِ الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ مَسَاجِدَ. رَوَى النَّسَائِيُّ عَنْ طَلْقِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: خَرَجْنَا وَفْدًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَايَعْنَاهُ وَصَلَّيْنَا مَعَهُ، وَأَخْبَرْنَاهُ أَنَّ بِأَرْضِنَا بِيعَةً لَنَا، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَفِيهِ:" فَإِذَا أَتَيْتُمْ أَرْضَكُمْ فَاكْسِرُوا بِيعَتَكُمْ وَاتَّخِذُوهَا مَسْجِدًا (. وَذَكَرَ أَبُو دَاوُدَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ أَنْ يَجْعَلَ مَسْجِدَ الطَّائِفِ حَيْثُ كَانَتْ طَوَاغِيتُهُمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي" بَرَاءَةٌ" «١». وَحَسْبُكَ بِمَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مَبْنِيًّا فِي مَقْبَرَةِ الْمُشْرِكِينَ، وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى كُلِّ مَنْ كَرِهَ الصَّلَاةَ فِيهَا. وَمِمَّنْ كَرِهَ الصَّلَاةَ فِي الْمَقْبَرَةِ سَوَاءٌ كانت لمسلمين أو مشركين الثوري أَجْزَأَهُ إِذَا صَلَّى فِي الْمَقْبَرَةِ فِي مَوْضِعٍ لَيْسَ فِيهِ نَجَاسَةٌ، لِلْأَحَادِيثِ الْمَعْلُومَةِ فِي ذَلِكَ، وَلِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:" صَلُّوا فِي بُيُوتِكُمْ وَلَا تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا"، وَلِحَدِيثِ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:" لَا تُصَلُّوا إِلَى الْقُبُورِ وَلَا تَجْلِسُوا عَلَيْهَا". وَهَذَانِ حَدِيثَانِ ثَابِتَانِ مِنْ جِهَةِ الْإِسْنَادِ، وَلَا حُجَّةَ فِيهِمَا، لِأَنَّهُمَا مُحْتَمِلَانِ لِلتَّأْوِيلِ، وَلَا يَجِبُ أَنْ يُمْتَنَعَ مِنَ الصَّلَاةِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ طَاهِرٍ إِلَّا بِدَلِيلٍ لَا يَحْتَمِلُ تَأْوِيلًا. وَلَمْ يُفَرِّقْ أَحَدٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْمُسْلِمِينَ بَيْنَ مَقْبَرَةِ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ إِلَّا مَا حَكَيْنَاهُ مِنْ خَطَلِ الْقَوْلِ الَّذِي لَا يُشْتَغَلُ بِمِثْلِهِ، وَلَا وَجْهَ لَهُ فِي نَظَرٍ وَلَا فِي صَحِيحِ أَثَرٍ. وَثَامِنُهَا «٢» - الْحَائِطُ يُلْقَى فِيهِ النَّتْنُ وَالْعَذِرَةُ لِيُكْرَمَ فَلَا يُصَلَّى فِيهِ حَتَّى يُسْقَى ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، لِمَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَائِطِ يُلْقَى فِيهِ الْعَذِرَةُ وَالنَّتْنُ قَالَ:" إِذَا سُقِيَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَصَلِّ فِيهِ". وَخَرَّجَهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْحِيطَانِ الَّتِي تُلْقَى فِيهَا الْعَذُرَاتِ وَهَذَا الزِّبْلُ، أَيُصَلَّى فِيهَا؟ فَقَالَ: إِذَا سُقِيَتْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَصَلِّ فِيهَا. رُفِعَ ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. اختلفا في الاسناد، والله أعلم.
---------------
(١). راجع ج ٨ ص ٢٥٤ فأبعد.
(٢). أراد ثامن المسائل التي استنبطها الفقهاء. والحائط الحديقة.

الصفحة 52