كتاب البداية والنهاية ط الفكر (اسم الجزء: 10)

أبو يوسف: لَوْ رَأَى صَاحِبِي مَا رَأَيْتُ لَرَجَعَ كَمَا رجعت. وهذا انصاف منه.
وَقَدْ كَانَ يَحْضُرُ فِي مَجْلِسِ حُكْمِهِ الْعُلَمَاءُ عَلَى طَبَقَاتِهِمْ، حَتَّى إِنَّ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ كَانَ شَابًّا وَكَانَ يَحْضُرُ مَجْلِسَهُ فِي أَثْنَاءِ الناس فيتناظرون ويتباحثون، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَحْكُمُ وَيُصَنِّفُ أَيْضًا. وَقَالَ:
وُلِّيتُ هَذَا الْحُكْمَ وَأَرْجُو اللَّهَ أَنْ لَا يسألنى عن جور ولا ميل إلى أحمد، إِلَّا يَوْمًا وَاحِدًا جَاءَنِي رَجُلٌ فَذَكَرَ أَنَّ لَهُ بُسْتَانًا وَأَنَّهُ فِي يَدِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَدَخَلْتُ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَأَعْلَمْتُهُ فَقَالَ: الْبُسْتَانُ لِي اشْتَرَاهُ لِي الْمَهْدِيُّ. فَقُلْتُ: إِنْ رَأَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُحْضِرَهُ لِأَسْمَعَ دَعْوَاهُ. فَأَحْضَرَهُ فَادَّعَى بِالْبُسْتَانِ فَقُلْتُ: مَا تَقُولُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ: هُوَ بُسْتَانِي. فَقُلْتُ لِلرَّجُلِ: قَدْ سَمِعْتَ مَا أَجَابَ.
فَقَالَ الرَّجُلُ: يَحْلِفُ، فَقُلْتُ، أَتَحْلِفُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ: لَا، فَقُلْتُ سَأَعْرِضُ عَلَيْكَ الْيَمِينَ ثَلَاثًا فَإِنْ حَلَفْتَ وَإِلَّا حكمت عليك يا أمير المؤمنين. فَعَرَضْتُهَا عَلَيْهِ ثَلَاثًا فَامْتَنَعَ فَحَكَمْتُ بِالْبُسْتَانِ لِلْمُدَّعِي. قَالَ: فَكُنْتُ فِي أَثْنَاءِ الْخُصُومَةِ أَوَدُّ أَنْ ينفصل وَلَمْ يُمْكِنِّي أَنْ أُجْلِسَ الرَّجُلَ مَعَ الْخَلِيفَةِ.
وَبَعَثَ الْقَاضِي أَبُو يُوسُفَ فِي تَسْلِيمِ الْبُسْتَانِ إِلَى الرَّجُلِ.
وَرَوَى الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّا الْجُرَيْرِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أبى الأزهر عن حماد بن أبى إسحاق عَنْ أَبِيهِ عَنْ بِشْرِ بْنِ الْوَلِيدِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ. قَالَ: بَيْنَا أَنَا ذَاتَ لَيْلَةٍ قَدْ نِمْتُ فِي الْفِرَاشِ، إِذَا رَسُولُ الْخَلِيفَةِ يَطْرُقُ الْبَابَ، فَخَرَجْتُ مُنْزَعِجًا فَقَالَ: أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ يَدْعُوكَ، فَذَهَبْتُ فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ وَمَعَهُ عِيسَى ابن جَعْفَرٍ فَقَالَ لِي الرَّشِيدُ: إِنَّ هَذَا قَدْ طلبت منه جارية يهبن يها فلم يفعل، أو يبيعنيها، وَإِنِّي أُشْهِدُكَ إِنْ لَمْ يُجِبْنِي إِلَى ذَلِكَ قَتَلْتُهُ. فَقُلْتُ لِعِيسَى: لِمَ لَمْ تَفْعَلْ؟ فَقَالَ: إِنِّي حَالِفٌ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَصَدَقَةِ مَالِي كُلِّهِ أَنْ لَا أَبِيعَهَا وَلَا أَهَبَهَا. فَقَالَ لِي الرَّشِيدُ: فَهَلْ لَهُ مِنْ مَخْلَصٍ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ يَبِيعُكُ نِصْفَهَا وَيَهَبُكَ نِصْفَهَا. فَوَهَبَهُ النِّصْفَ وَبَاعَهُ النِّصْفَ بِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، فَقَبِلَ مِنْهُ ذَلِكَ وَأُحْضِرَتِ الْجَارِيَةُ، فَلَمَّا رَآهَا الرَّشِيدُ قَالَ: هَلْ لِي مِنْ سَبِيلٍ عَلَيْهَا اللَّيْلَةَ؟ قُلْتُ: إِنَّهَا مَمْلُوكَةٌ وَلَا بُدَّ مِنَ اسْتِبْرَائِهَا، إِلَّا أَنْ تُعْتِقَهَا وَتَتَزَوَّجَهَا فَإِنَّ الْحُرَّةَ لَا تُسْتَبْرَأُ. قَالَ فأعتقها وتزوجها مِنْهُ بِعِشْرِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَأَمَرَ لِي بِمِائَتَيْ أَلْفِ دِرْهَمٍ وَعِشْرِينَ تَخْتًا مِنْ ثِيَابٍ، وَأَرْسَلَتْ إليّ الجارية بعشرة آلاف دينار.
وقال يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: كُنْتُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فجاءته هدية من ثياب ديبقي وطيب وفانيل نِدٍّ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَذَاكَرَنِي رَجُلٌ فِي إِسْنَادِ حَدِيثِ «مَنْ أُهْدِيَتْ لَهُ هَدِيَّةٌ وَعِنْدَهُ قَوْمٌ جُلُوسٌ فَهُمْ شُرَكَاؤُهُ» فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إِنَّمَا ذَاكَ فِي الْأَقِطِ وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ، وَلَمْ تَكُنِ الهدايا في ذلك الوقت ما ترون، يا غلام ارفع هذا إلى الخزائن، ولم يعطهم منها شيئا. وَقَالَ بِشْرُ بْنُ غِيَاثٍ الْمَرِيسِيُّ: سَمِعْتُ أَبَا يُوسُفَ يَقُولُ:
صَحِبْتُ أَبَا حَنِيفَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً ثُمَّ انْصَبَّتْ عَلَيَّ الدُّنْيَا سَبْعَ عَشْرَةَ سنة، وما أظن أجلى إلا أن اقترب. فما مكث بعد ذلك إلا شهورا حتى مات.

الصفحة 181