كتاب البداية والنهاية ط الفكر (اسم الجزء: 10)

المؤمنين لا أشتهي ذلك إلا معك. فقال: لا! انصرف إلى منزلك. فَانْصَرَفَ عَنْهُ جَعْفَرٌ فَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ ذهب اللَّيْلِ بَعْضُهُ حَتَّى أَوْقَعَ بِهِ مِنَ الْبَأْسِ وَالنَّكَالِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. وَكَانَ ذَلِكَ لَيْلَةَ السَّبْتِ آخَرَ لَيْلَةٍ مِنَ الْمُحَرَّمِ، وَقِيلَ إِنَّهَا أول ليلة من صفر في هذه السنة، وَكَانَ عُمْرُ جَعْفَرٍ إِذْ ذَاكَ سَبْعًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَلَمَّا جَاءَ الْخَبَرُ إِلَى أَبِيهِ يَحْيَى بْنِ خَالِدٍ بِقَتْلِهِ قَالَ: قَتَلَ اللَّهُ ابْنَهُ. وَلَمَّا قِيلَ لَهُ: قَدْ خُرِّبَتْ دَارُكَ قَالَ:
حرب الله دوره. ويقال: إن يحيى لما نظر إلى دوره وَقَدْ هُتِكَتْ سُتُورُهَا وَاسْتُبِيحَتْ قُصُورُهَا، وَانْتُهِبَ مَا فِيهَا. قَالَ: هَكَذَا تَقُومُ السَّاعَةُ. وَقَدْ كَتَبَ إليه بعض أصحابه يعزيه فيما جرى له، فكتب إليه جواب التعزية: أنا بقضاء الله راض، وباختياره عَالِمٌ، وَلَا يُؤَاخِذُ اللَّهُ الْعِبَادَ إِلَّا بِذُنُوبِهِمْ، وَمَا اللَّهُ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ. وَمَا يَغْفِرُ اللَّهُ أَكْثَرُ وللَّه الْحَمْدُ. وَقَدْ أَكْثَرَ الشُّعَرَاءُ مِنَ الْمَرَاثِي فِي الْبَرَامِكَةِ فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الرَّقَاشِيِّ، وقيل أَنَّهَا لِأَبِي نُوَاسٍ [1] :
أَلَانَ اسْتَرَحْنَا وَاسْتَرَاحَتْ رِكَابُنَا ... وأمسك من يحدي ومن كان يحتدي [2]
فَقُلْ لِلْمَطَايَا قَدْ أَمِنْتِ مِنَ السُّرَى ... وَطَيِّ الْفَيَافِي فَدْفَدًا بَعْدَ فَدْفَدِ
وَقُلْ لِلْمَنَايَا قَدْ ظَفِرْتِ بِجَعْفَرٍ ... وَلَنْ تَظْفَرِي مِنْ بَعْدِهِ بَمُسَوَّدِ
وقل للمطايا بَعْدْ فَضْلٍ: تَعَطَّلِي ... وَقُلْ لِلرَّزَايَا كُلَّ يَوْمٍ تَجَدَّدِي
وَدُونَكِ سَيْفًا بَرْمَكِيًّا مُهَنَّدًا ... أُصِيبَ بِسَيْفٍ هَاشِمِيٍّ مُهَنَّدِ
وَقَالَ الرَّقَاشِيُّ [3] ، وَقَدْ نَظَرَ إِلَى جعفر وهو على جذعه:
أَمَا وَاللَّهِ لَوْلَا خَوْفُ وَاشٍ ... وَعَيْنٌ لِلْخَلِيفَةِ لَا تَنَامُ
لَطُفْنَا حَوْلِ جِذْعِكَ وَاسْتَلَمْنَا ... كَمَا للناس بالحجر استلام
فما أبصرت قبلك [4] يا بن يَحْيَى ... حُسَامًا فَلَّهُ السَّيْفُ الْحُسَامُ
عَلَى اللَّذَّاتِ وَالدُّنْيَا جَمِيعًا [5] ... وَدَوْلَةِ آلِ بَرْمَكٍ السَّلَامُ
قَالَ فاستدعاه الرشيد فقال له: كَمْ كَانَ يُعْطِيكَ جَعْفَرٌ كُلَّ عَامٍ؟ قَالَ: ألف دينار. قال:
فَأَمَرَ لَهُ بِأَلْفَيْ دِينَارٍ. وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ عَنْ عَمِّهِ مُصْعَبٍ الزُّبَيْرِيِّ قَالَ: لَمَّا قتل الرشيد جعفرا وَقَفَتِ امْرَأَةٌ عَلَى حِمَارٍ فَارِهٍ فَقَالَتْ بِلِسَانٍ فصيح: والله يا جعفر لئن صرت اليوم آية لقد كُنْتَ فِي الْمَكَارِمِ غَايَةً، ثُمَّ أَنْشَأَتْ تَقُولُ [6] :
وَلَمَّا رَأَيْتُ السَّيْفَ خَالَطَ [7] جَعْفَرًا ... وَنَادَى مُنَادٍ لِلْخَلِيفَةِ فِي يَحْيَى
بَكَيْتُ عَلَى الدُّنْيَا وَأَيْقَنْتُ أنما ... قصارى الفتى يوما مفارقة الدنيا
__________
[1] في مروج الذهب 3/ 467 قال: هو أشجع السلمي.
[2] في مروج الذهب: يجدي ويجتدي.
[3] نسب الطبري الأبيات إلى أبي عبد الرحمن العطوي.
[4] في شذرات الذهب: مثلك، وليس البيت في الطبري.
[5] في الطبري: على الدنيا وساكنها جميعا ...
[6] نسب ابن خلكان الأبيات إلى دعبل بن علي الخزاعي 1/ 340.
[7] في وفيات الأعيان: صبّح.

الصفحة 192