كتاب البداية والنهاية ط الفكر (اسم الجزء: 10)

وفضائل الرشيد ومكارمه كثيرة جدا. قد ذكر الأئمة من ذلك شيئا كثيرا فذكرنا منه أنموذجا صالحا. وَقَدْ كَانَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ يَقُولُ: لَيْسَ موت أحد أعز علينا من موت الرشيد، لما أتخوف بعده من الحوادث، وَإِنِّي لَأَدْعُو اللَّهَ أَنْ يَزِيدَ فِي عُمُرِهِ مِنْ عُمُرِي قَالُوا: فَلَمَّا مَاتَ الرَّشِيدُ وَظَهَرَتْ تلك الفتن والحوادث والاختلافات، وظهر القول بخلق القرآن، فعرفنا ما كان تخوفه الفضيل من ذلك. وقد تقدمت رؤياه لذلك الكف وتلك التربة الحمراء وقائل يقول: هذه تربة أمير المؤمنين.
فكان موته بِطُوسَ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّ الرَّشِيدَ رَأَى فِي مَنَامِهِ قَائِلًا يَقُولُ: كَأَنِّي بِهَذَا الْقَصْرِ قَدْ بَادَ أَهْلُهُ. الشِّعْرَ إِلَى آخِرِهِ.
وقد تقدم أن ذلك إنما رآه أخو مُوسَى الْهَادِي. وَأَبُوهُ مُحَمَّدٌ الْمَهْدِيُّ فاللَّه أَعْلَمُ.
وَقَدَّمْنَا أَنَّهُ أَمَرَ بِحَفْرِ قَبْرِهِ فِي حَيَاتِهِ، وأن تقرأ فيه ختمة تامة، وحمل حتى نظر إليه فجعل يقول:
إلى هنا تصير يا ابن آدَمَ. وَيَبْكِي، وَأَمَرَ أَنْ يُوَسَّعَ عِنْدَ صَدْرِهِ وَأَنْ يُمَدَّ مِنْ عِنْدِ رِجْلَيْهِ، ثُمَّ جَعَلَ يَقُولُ: مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سلطنيه ويبكى. وقيل: إنه لما احتضر قال: اللَّهمّ انْفَعْنَا بِالْإِحْسَانِ، وَاغْفِرْ لَنَا الْإِسَاءَةَ، يَا مَنْ لَا يَمُوتُ ارْحَمْ مَنْ يَمُوتُ. وَكَانَ مرضه بالدم، وقيل بالسيل، وجبريل الطبيب يكتم مَا بِهِ مِنَ الْعِلَّةِ، فَأَمَرَ الرَّشِيدُ رَجُلًا أَنْ يَأْخُذَ مَاءَهُ فِي قَارُورَةٍ وَيَذْهَبَ بِهِ إلى جبريل فيريه إياه، ولا يذكر له بول من هو، فان سأله قال: هو بول مريض عندنا. فلما رآه جبريل قَالَ لِرَجُلٍ عِنْدَهُ: هَذَا مِثْلُ مَاءِ ذَلِكَ الرَّجُلِ. فَفَهِمَ صَاحِبُ الْقَارُورَةِ مَنْ عَنَى بِهِ، فَقَالَ لَهُ: باللَّه عَلَيْكَ أَخْبِرْنِي عَنْ حَالِ صَاحِبِ هَذَا الْمَاءِ، فَإِنَّ لِي عَلَيْهِ مَالًا، فان كان به رجاء وإلا أخذت مالي مِنْهُ. فَقَالَ: اذْهَبْ فَتَخَلَّصْ مِنْهُ فَإِنَّهُ لَا يَعِيشُ إِلَّا أَيَّامًا. فَلَمَّا جَاءَ وَأَخْبَرَ الرَّشِيدَ بَعَثَ إِلَى جِبْرِيلَ فَتَغَيَّبَ حَتَّى مَاتَ الرَّشِيدُ. وقد قال الرشيد وهو فِي هَذِهِ الْحَالِ:
إِنِّي بِطُوسَ مُقِيمٌ ... مَا لِي بِطُوسَ حَمِيمُ
أَرْجُو إِلَهِي لِمَا بِي ... فإنه بى رحيم
لقد أتى بى طوسا ... قَضَاؤُهُ الْمَحْتُومُ
وَلَيْسَ إِلَّا رِضَائِي ... وَالصَّبْرُ وَالتَّسْلِيمُ
مَاتَ بِطُوسَ يَوْمَ السَّبْتِ لِثَلَاثٍ خَلَوْنَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ، وَقِيلَ إِنَّهُ تُوُفِّيَ فِي جُمَادَى الْأُولَى، وَقِيلَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ خَمْسٌ، وَقِيلَ سبع، وقيل ثمان وأربعون سنة. ومدة خلافته ثَلَاثٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً وَشَهْرٌ وَثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا. وقيل ثلاثة أَشْهُرٍ.
وَصَلَّى عَلَيْهِ ابْنُهُ صَالِحٌ وَدُفِنَ بِقَرْيَةٍ من قرى طوس يقال لها سناباذ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَرَأْتُ عَلَى خِيَامِ الرَّشِيدِ بِسَنَابَاذَ وَالنَّاسُ مُنْصَرِفُونَ مِنْ طُوسَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ.
مَنَازِلُ الْعَسْكَرِ مَعْمُورَةٌ ... وَالْمَنْزِلُ الْأَعْظَمُ مَهْجُورُ
خَلِيفَةُ الله بدار البلى ... تسعى عَلَى أَجْدَاثِهِ الْمُورُ

الصفحة 221