كتاب البداية والنهاية ط الفكر (اسم الجزء: 10)

فَبِفَضْلِهِ وَإِنْ عَاقَبَ فَبِحَقِّهِ. فَوَقَّعَ الْمَأْمُونُ فِي جَوَابِ ذَلِكَ: الْقُدْرَةُ تُذْهِبُ الْحَفِيظَةَ وَكَفَى بِالنَّدَمِ إِنَابَةً وَعَفْوُ اللَّهِ أَوْسَعُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ. ولما دخل عَلَيْهِ أَنْشَأَ يَقُولُ:
إِنْ أَكُنْ مُذْنِبًا فَحَظِّيَ أخطأت ... فدع عنك كثيرة التأنيب
قل كما قال يوسف لبني يعقوب ... لَمَّا أَتَوْهُ لَا تَثْرِيبْ
فَقَالَ الْمَأْمُونُ: لَا تثريب. وروى الخطيب أن إبراهيم لَمَّا وَقَفَ بَيْنَ يَدَيِ الْمَأْمُونِ شَرَعَ يُؤَنِّبُهُ عَلَى مَا فَعَلَ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ حَضَرْتَ أَبِي وَهُوَ جَدُّكَ وَقَدْ أُتِيَ بِرَجُلٍ ذَنْبُهُ أَعْظَمُ مِنْ ذَنْبِي فَأَمَرَ بِقَتْلِهِ فَقَالَ مُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُؤَخِّرَ قَتْلَ هَذَا الرَّجُلِ حَتَّى أُحَدِّثَكَ حَدِيثًا، فَقَالَ: قُلْ. فَقَالَ: حَدَّثَنِي الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ؟
«إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَادَى مُنَادٍ مِنْ بُطْنَانِ العرش: ليقم العافون عن الناس مِنَ الْخُلَفَاءِ إِلَى أَكْرَمِ الْجَزَاءِ، فَلَا يَقُومُ إلى مَنْ عَفَا. فَقَالَ الْمَأْمُونُ: قَدْ قَبِلْتُ هَذَا الْحَدِيثَ بِقَبُولِهِ وَعَفَوْتُ عَنْكَ يَا عَمِّ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَمِائَتَيْنِ زِيَادَةً عَلَى هذا. وكانت أَشْعَارُهُ جَيِّدَةً بَلِيغَةً سَامَحَهُ اللَّهُ. وَقَدْ سَاقَ من ذلك ابن عساكر جانبا جيدا.
كان مولد إبراهيم هَذَا فِي مُسْتَهَلِّ ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ، وَتُوُفِّيَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِسَبْعٍ خَلَوْنَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ ثِنْتَيْنِ وَسِتِّينَ سَنَةً.
وفيها توفى سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ الْمِصْرِيُّ. وَسُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ. وَأَبُو مَعْمَرٍ الْمُقْعَدُ. وَعَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ المدائني الأخبار أَحَدُ أَئِمَّةِ هَذَا الشَّأْنِ فِي زَمَانِهِ. وَعَمْرُو بْنُ مَرْزُوقٍ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ. وَقَدْ تَزَوَّجَ هَذَا الرَّجُلَ أَلْفَ امْرَأَةٍ. (وَأَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ الْبَغْدَادِيُّ) أَحَدُ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ وَالْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ والقرآن والأخبار وأيام الناس، له المصنفات المشهورة المنتشرة بين الناس، حَتَّى يُقَالَ إِنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ كَتَبَ كِتَابَهُ فِي الْغَرِيبِ بِيَدِهِ، وَلَمَّا وَقَفَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاهِرٍ رَتَّبَ لَهُ فِي كُلِّ شَهْرٍ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَأَجْرَاهَا عَلَى ذُرِّيَّتِهِ مِنْ بَعْدِهِ. وَذَكَرَ ابْنُ خِلِّكَانَ أَنَّ ابْنَ طَاهِرٍ استحسن كتابه وَقَالَ: مَا يَنْبَغِي لِعَقْلٍ بَعَثَ صَاحِبَهُ عَلَى تصنيف هذا الكتاب أن نحوج صَاحِبُهُ إِلَى طَلَبِ الْمَعَاشِ. وَأَجْرَى لَهُ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ فِي كُلِّ شَهْرٍ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بن وهب المسعودي: سَمِعْتُ أَبَا عُبَيْدٍ يَقُولُ: مَكَثْتُ فِي تَصْنِيفِ هَذَا الْكِتَابِ أَرْبَعِينَ سَنَةً. وَقَالَ هِلَالُ بْنُ المعلى الرَّقِّيُّ: مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِهَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ: الشافعيّ تفقه في الفقه والحديث، وأحمد بن حنبل في المحنة. ويحيى بن معين في نفى الكذب. وأبو عبيد في تفسير غريب الحديث. ولولا ذلك لاقتحم الناس المهالك.
وَذَكَرَ ابْنُ خِلِّكَانَ أَنَّ أَبَا عُبَيْدٍ وَلِيَ الْقَضَاءَ بِطَرَسُوسَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَذَكَرَ لَهُ مِنَ الْعِبَادَةِ وَالِاجْتِهَادِ فِي الْعِبَادَةِ شَيْئًا كَثِيرًا. وقد روى الغريب عن أَبِي زَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ وَالْأَصْمَعِيِّ وَأَبِي

الصفحة 291