كتاب البداية والنهاية ط الفكر (اسم الجزء: 10)

وكاتبه في الخد بالمسك جعفرا ... بنفسي تحط الْمِسْكِ مِنْ حَيْثُ أَثَّرَا
لَئِنْ أَوْدَعَتْ سَطْرًا مِنَ الْمِسْكِ خَدَّهَا ... لَقَدْ أَوْدَعَتْ قَلْبِي مِنَ الْحُبِّ أَسْطُرًا
فَيَا مَنْ مُنَاهَا فِي السَّرِيرَةِ جَعْفَرٌ ... سَقَى اللَّهُ مِنْ سُقْيَا ثَنَايَاكِ جَعْفَرًا
ويا من لمملوك بملك يَمِينِهِ ... مُطِيعٍ لَهُ فِيمَا أَسَرَّ وَأَظْهَرَا
قَالَ ثم أمر المتوكل عربا فَغَنَّتْ بِهِ. وَقَالَ الْفَتْحُ بْنُ خَاقَانَ: دَخَلْتُ يَوْمًا عَلَى الْمُتَوَكِّلِ فَإِذَا هُوَ مُطْرِقٌ مُفَكِّرٌ فقلت: يا أمير المؤمنين مالك مفكر؟ فو الله مَا عَلَى الْأَرْضِ أَطْيَبُ مِنْكَ عَيْشًا، وَلَا أنعم منك بالا. قال: بلى أَطْيَبُ مِنِّي عَيْشًا رَجُلٌ لَهُ دَارٌ وَاسِعَةٌ وَزَوْجَةٌ صَالِحَةٌ وَمَعِيشَةٌ حَاضِرَةٌ، لَا يَعْرِفُنَا فَنُؤْذِيهِ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَيْنَا فَنَزْدَرِيهِ. وَكَانَ الْمُتَوَكِّلُ مُحَبَّبًا إلى رعيته قائما في نصرة أهل السنة، وقد شبهه بعضهم بالصديق في قتله أهل الردة، لأنه نصر الحق ورده عليهم حَتَّى رَجَعُوا إِلَى الدِّينِ. وَبِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ العزيز حين رد مظالم بنى أمية. وقد أظهر السنة بعد البدعة، وأخمد أهل البدع وبدعتهم بَعْدَ انْتِشَارِهَا وَاشْتِهَارِهَا فَرَحِمَهُ اللَّهُ. وَقَدْ رَآهُ بَعْضُهُمْ فِي الْمَنَامِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَهُوَ جَالِسٌ في نور قال فقلت:
المتوكل؟ قال: المتوكل. قلت: فَمَا فَعَلَ بِكَ رَبُّكَ؟ قَالَ: غَفَرَ لِي. قُلْتُ: بِمَاذَا؟ قَالَ: بِقَلِيلٍ مِنَ السُّنَّةِ أَحْيَيْتُهَا. وَرَوَى الْخَطِيبُ عَنْ صَالِحِ بْنِ أَحْمَدَ أَنَّهُ رَأَى فِي مَنَامِهِ لَيْلَةَ مَاتَ الْمُتَوَكِّلُ كَأَنَّ رَجُلًا يَصْعَدُ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ وَقَائِلًا يَقُولُ:
مَلِكٌ يُقَادُ إِلَى مَلِيكٍ عَادِلٍ ... مُتَفَضِّلٍ فِي الْعَفْوِ لَيْسَ بِجَائِرِ
وَرُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شيبان الحلبي قال: رأيت ليلة الْمُتَوَكِّلُ قَائِلًا يَقُولُ: -
يَا نَائِمَ الْعَيْنِ فِي أوطان جُثْمَانِ ... أَفِضْ دُمُوعَكَ يَا عَمْرُو بْنَ شَيْبَانِ
أما ترى الفئة الْأَرْجَاسَ مَا فَعَلُوا ... بِالْهَاشِمِيِّ وَبِالْفَتْحِ بْنِ خَاقَانِ
وَافَى إِلَى اللَّهِ مَظْلُومًا فَضَجَّ لَهُ ... أَهْلُ السموات من مثنى ووحدان
وسوف يأتيكم من بعده فتن ... تَوَقَّعُوهَا لَهَا شَأْنٌ مِنَ الشَّانِ
فَابْكُوا عَلَى جعفر وابكوا خَلِيفَتَكُمْ ... فَقَدْ بَكَاهُ جَمِيعُ الْإِنْسِ وَالْجَانِ
قَالَ: فلما أصبحت أخبرت الناس برؤياى فجاء نعى المتوكل أنه قد قُتِلَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ، قَالَ ثُمَّ رَأَيْتُهُ بَعْدَ هَذَا بِشَهْرٍ وَهُوَ وَاقِفٌ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَقُلْتُ: مَا فَعَلَ بِكَ رَبُّكَ؟ فَقَالَ: غَفَرَ لِي.
قُلْتُ بِمَاذَا؟ قَالَ: بِقَلِيلٍ مِنَ السُّنَّةِ أَحْيَيْتُهَا. قُلْتُ فَمَا تَصْنَعُ هَاهُنَا؟ قَالَ: أَنْتَظِرُ ابْنِي مُحَمَّدًا أُخَاصِمُهُ إِلَى الله الحليم العظيم الكريم.
وذكرنا قريبا كيفية مقتله وأنه قتل فِي لَيْلَةِ الْأَرْبِعَاءِ أَوَّلَ اللَّيْلِ لِأَرْبَعٍ خَلَتْ مِنْ شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ- أَعْنِي سَنَةَ سبع وأربعين ومائتين- بالمتوكلية وهي الماحوزية، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ،

الصفحة 351